مقام "الكورد" أصل الموسيقى العربية.. لحن به الكبار وغنت به أم كلثوم والأطرش وعبد الحليم وفيروز

لم يتطرق كثيرون لتجربة البحث عن جذور المقامات الموسيقية، وعن تسميتها، ومع البحث وسؤال بعض الموسيقيين ومنهم المايسترو الدكتورة إيمان الجنيدي عن أصل تسمية مقام "كورد" بهذه التسمية، كانت المفاجأة هي أنه أحد أهم المقامات التي عادة ما يطلب المطربون أن تُغنى أعمالهم به لبساطته وقربه الشديد من الروح الشرقية والعربية، وأنه سُمّي بهذا الاسم لأنه موطن الموسيقى الكردية، وإن تم دراسة الموسيقى في كردستان سيُكتشف أنها تتميز بالبساطة.وبرغم إنتشاره فى العالم العربي وغير العربي لم يذكر من وضعه غير أن الموسيقيون يرون بأنه ولد مع نشأة فن الموسيقى الكوردية فى جبال كوردستان .
وتضيف الدكتورة الجنيدي، في رأي خاص لموقع "كوردستان 24" النسخة العربية، بأن مقام الكورد هو أحد المقامات الشرقية المميزة، مما يمنحه لونًا موسيقيًا خاصًا يسهل على الأذن تمييزه. ويمتاز هذا المقام بطابع عاطفي واضح، يجمع بين الدفء والرقة، وقد يميل أحيانًا إلى الحزن الجميل. ويمكن للمستمع، بعد سماع عدة مقطوعات أو أغانٍ متتالية على هذا المقام، أن يتعرف عليه بسهولة ويشعر أنه مقام صريح ذو شخصية واضحة.
أما عن نشأته، فهي كما تشير كل الأبحاث والدراسات الموسيقية، سُمّي بهذا الاسم نسبةً إلى منطقة كوردستان، وهو منتشر في المنطقة الممتدة بين العراق وإيران وتركيا وسوريا حاليًا. وتذكر المصادر أن أصوله تعود إلى الموسيقى الشرقية التقليدية، وانتشر في العالم العربي منذ زمن بعيد. وليس هناك توثيق قاطع لأول من وضع هذا المقام، إذ جاء على الأرجح نتيجة تطور تدريجي في أنماط الغناء والعزف.
وتؤكد المايسترو الجنيدي أن الموسيقى الكوردية تاريخيًا كانت تعتمد على السلالم الخماسية والسباعية، وكانت آلة التمبورة، والدف، وغيرهما من الآلات، منتشرة حتى في مصر.
وقد دخل مقام الكورد بقوة في القرن العشرين مع ألحان سيد درويش، ثم ازدهر على يد محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي وفريد الأطرش.

وفى بعض الدراسات أن أول ظهور واضح لمقام الكورد في الموسيقى العربية كان عبر الملحنين العرب في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مثل داود حسني وسيد درويش، لكنه كان موجودًا في الأداء الشعبي الكوردي قبل ذلك بمئات السنين.
كبار المطربين غنوا بالكورد
ويحتل مقام الكورد مكانة مميزة في الموسيقى الشرقية، فهو مقام ذو شخصية واضحة الملامح، قادر على أسر المستمع منذ اللحظة الأولى بما يحمله من شجن رقيق ودفء عاطفي، ومع بساطته الظاهرية يمنح الملحنين والعازفين مساحات واسعة للإبداع والتلوين النغمي. ومن مقام الكورد تفرعت مقامات فرعية عدة، اعتمدت على تعديلات جزئية في درجات السلم أو على دمجه بمقامات أخرى، وهو ما منح المؤدين مرونة في الانتقال بين أجواء حزينة وأخرى مبهجة أو المزج بين العاطفة والبهجة في العمل الواحد. وعلى مدار عقود، لجأ كبار الملحنين إلى مقام الكورد للتعبير عن أعمق الأحاسيس، ومن أبرز الأغنيات التي بُنيت ألحانها عليه" على بلد المحبوب وديني" لأم كلثوم من ألحان داود حسني، "أنا لحبيبي" و"نسم علينا الهوى" لفيروز من ألحان الأخوين رحباني، "عدى النهار" لعبد الحليم حافظ من ألحان كمال الطويل، "يا مالكًا قلبي" عبد الحليم حافظ، "على الله تعود" لوديع الصافي.

سيد درويش يلحن به
وقال المطرب إيمان البحر درويش ممتدحا المقام أن جده سيد درويش أحب هذا المقام ولحن به أحد أهم ألحانه التي يتغنى بها كل المطربين ومنهم فيروز، وهو من كلمات يونس القاضي "أنا هويت وانتهيت...". وتقول كلماته:
أنا هويته وانتهيت
وليه بقا لوم العزول
ليه يحب أني أقول ياريت
الحب دا عني يزول
ما دمت أنا بهجره ارتضيت
خلى بقا اللي يقول يقول
أنا وحبيبي في الغرام
مافيش كدا ولا في المنام
أحبه حتى في الخصام
وبعده عني يا ناس حرام
ما دمت أنا بهجره ارتضيت
منى على الدنيا... على الدنيا السلام
اللحن يبدأ بجملة واضحة على درجة القرار للكورد، ويستمر في بناء الجمل اللحنية على سلم الكورد الصغير دون استخدام أرباع تون، مما يعطيه الطابع الحزين والحنون في آن واحد. بعض التسجيلات أو التوزيعات الحديثة قد تُدخل انتقالات لمقامات أخرى، لكن النسخة الأصلية لسيد درويش خالصة في طابع الكورد.
ويعتبر فريد الأطرش من أكثر من لحنوا بمقام كورد، وأشهر أغنياته التي أعدها خصيصًا لأم كلثوم ولم تغنها، أغنية "الربيع". وقد لفت بعض الكتّاب إلى أن فريد الأطرش اعتبر مقام الكورد هو العمود الفقري للأغنية، لكنه دمج فيه لمسته الخاصة التي تأثرت بالكلاسيكيات الإسبانية، من خلال توظيفه الإيقاعي الخاص إلى جانب انتقالاته المبدعة ضمن المقام نفسه ومنه إلى غيره من المقامات، مع إبقاء العودة الختامية للكورد واضحة وحاضرة في النهاية.
إذاعة كوردية تسهم في انتشاره

ويظهر مقام الكورد في أداء عبد الحليم حافظ، في أغنية "أعز الناس" تلحين بليغ حمدي، حيث تُفتتح المقدمة الموسيقية على مقام الكورد.
ويبدو أن تأثير الموسيقى الكوردية في مصر له تاريخه الواضح، إذ كان لإنشاء إذاعة كوردية في مصر دور بارز في انتشار الموسيقى والمقامات الكوردية، حيث كان لابد أن تتضمن تلك الإذاعة، التي تم تأسيسها عام 1957 ضمن خطة إذاعة الدولة إبان حكم الرئيس جمال عبد الناصر، برامج متنوعة من الأدب والشعر الكردي إلى الأغاني والأنغام، بالإضافة إلى المراسلين والرسائل من الجاليات الكوردية في عدد من الدول. كما فتحت هذه الإذاعة نافذة ثقافية واسعة لكردستان والعالم العربي داخل مصر.

ومنذ ثلاث سنوات، أي في عام 2022، زارت فرقة "نالي" الكوردية القاهرة وقدمت حفلاً موسيقيًا رسميًا حضره كبار المثقفين ومسؤولون رسميون، ضمن دعم العلاقات الثقافية بين مصر وكوردستان العراق. وفي العام التالي، قدمت فرقة "كولاني وأربيلي" عروضًا للدبكة الكوردية أغنت المشهد الفني في العاصمة، في مبادرة نظمها مكتب الحزب الديمقراطي الكوردستاني بالقاهرة.
لغة مشتركة
الموسيقى لغة مشتركة بين الشعوب، وإن كانت بعض الدول وبعض المدن تتمتع بخواص لا تتمتع بها مدن أخرى، كتلك التي تتمتع بها كوردستان، حيث الموسيقى ذات الطابع الشجي التي توارثتها أجيال متعددة، فإن مقام مثل الكورد أصبح لغة مشتركة بين موسيقيين من ثقافات متعددة. انتقل من جبال كوردستان إلى مسارح القاهرة، ومن المقاهي الدمشقية إلى المسارح الأوروبية، لينتشر المقام الكوردي حاملًا اسم وطن، معبرًا عن ثقافة شعب أثرت موسيقاه وثقافته في كل دول العالم، والدليل أن كل موسيقي ومغنٍ وعازف يكرر اسم المقام كأحد أدواته في التعبير عن موهبته لبساطته وقربه من الأذن الشرقية.