
د. دژوار سندی
أكاديمي ومتخصص في القانون
ثورة أيلول 1961: القيادة الكوردية والتحولات السياسية والاجتماعية في العراق المعاصر

تشكّل ثورة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 1961، التي قادها الزعيم الكوردي الخالد الملا مصطفى البارزاني، منعطفاً حاسماً في المسار النضالي للشعب الكوردي وتاريخ العراق المعاصر. لم تكن هذه الثورة مجرد مواجهة مسلحة مع النظام المركزي، بل مثّلت مشروعاً تحررياً متكاملاً يستند إلى أسس فكرية وسياسية واضحة، ويطمح إلى إعادة صياغة العلاقة بين المركز والأطراف في العراق. وقد نجحت الثورة في تحويل القضية الكوردية من قضية مطلبية إلى مشروع سياسي مكتمل الأركان، مهّد الطريق لقيام إقليم كوردستان في تسعينيات القرن الماضي.
السياق التاريخي والظروف الموضوعية:
انبثقت ثورة أيلول من رحم معاناة تاريخية متراكمة، حيث مثّلت ذروة الرفض الكوردي لسياسات التهميش والإقصاء المنهجي التي انتهجتها الحكومات العراقية المتعاقبة. فبعد تقسيم كوردستان بموجب اتفاقية سايكس-بيكو 1916، وتعاقب الأنظمة التي أنكرت الحقوق القومية الأساسية للشعب الكوردي، جاءت ثورة 14 تموز 1958 لتبثّ الأمل في إمكانية تحقيق شراكة حقيقية. إلا أن النظام الجديد سرعان ما كشف عن توجهات شمولية، مفضّلاً الخيار العسكري في التعامل مع المطالب الكوردية المشروعة.
على الصعيد الإقليمي، اندلعت الثورة في خضم تحولات جيوسياسية بالغة التعقيد، حيث ساد المد القومي العربي وتصاعدت حدة الحرب الباردة. وقد استفادت الثورة من الخبرة التراكمية للقائد البارزاني، خاصة من تجربة جمهورية مهاباد 1946 ومنفاه في الاتحاد السوفيتي، في صياغة رؤية استراتيجية متكاملة للنضال الكوردي.
البنية الفكرية والقيادية للثورة:
تميزت ثورة أيلول بوجود قيادة كاريزماتية ممثلة في شخص الملا مصطفى البارزاني، الذي جمع بين الحنكة السياسية والخبرة العسكرية والإيمان الراسخ بعدالة القضية. وقد نجحت هذه القيادة في تحويل الحركة من احتجاج محدود إلى ثورة شعبية شاملة، استقطبت مختلف الشرائح الاجتماعية الكوردية، من المثقفين إلى الفلاحين، كما اجتذبت تعاطفاً واسعاً من بعض العناصر في الجيش والشرطة العراقية.
اعتمدت الثورة على خطاب سياسي متوازن، جمع بين المطالب القومية للكورد والرؤية الوطنية الشاملة للعراق، عبر شعار "الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكوردستان". وقد تجسّد هذا الخطاب في مطالب محددة شملت الاعتراف الدستوري بالحقوق القومية، وإقرار الحكم الذاتي، واعتماد اللغة الكوردية، وإنشاء مؤسسات إدارة ذاتية.
الإنجازات السياسية والمكاسب الاستراتيجية:
حققت الثورة إنجازات نوعية على المستوى السياسي، يأتي في مقدمتها اتفاقية 11 آذار/مارس 1970، التي مثّلت أول اعتراف رسمي من الدولة العراقية بالحقوق القومية للشعب الكوردي. وشملت الاتفاقية الاعتراف بالحكم الذاتي للمناطق الكوردية، والمشاركة في مؤسسات الحكم المركزية، واعتماد اللغة الكوردية لغة رسمية.
كما نجحت الثورة في تدويل القضية الكوردية، حيث انتقلت من دائرة الاهتمام المحلي والإقليمي إلى الساحة الدولية، وأصبحت حاضرة في أروقة السياسة العالمية. وقد أسهمت الدبلوماسية الكوردية الناشئة، بدعم من نشاط الطلبة والمهاجرين الكورد في الخارج، في كسب تعاطف الرأي العام العالمي.
على الصعيد الداخلي، أسست الثورة لنموذج إداري متقدم في المناطق المحررة، حيث تم إنشاء مؤسسات محلية لإدارة الشؤون المدنية وتقديم الخدمات الأساسية، مما شكّل نواة أولية للتجربة الإدارية التي تطورت لاحقاً في إقليم كوردستان.
الأبعاد الاجتماعية والثقافية:
تميزت ثورة أيلول بأبعاد اجتماعية وثقافية عميقة، تجلّت في:
1. تعزيز الوحدة الاجتماعية: عبر محاربة النفوذ الإقطاعي وترسيخ قيم المساواة بين مختلف شرائح المجتمع الكوردي.
2. ترسيخ الهوية الوطنية: من خلال التأكيد على الخصوصية الثقافية واللغوية للشعب الكوردي.
3. بناء جسور التعايش: مع المكونات العراقية الأخرى، عبر التأكيد على الطابع التعددي للثورة ورفضها لأي شكل من أشكال التمييز.
الخاتمة: إرث ثوري متجدد:
تمثّل ثورة أيلول إرثاً ثورياً متجدداً، تجسّد في تحوّلها من حركة تحررية إلى مشروع سياسي مؤسسي، مهّد لقيام كيان الحكم الذاتي في إقليم كوردستان. لقد أثبتت الثورة أن النضال القائم على الأسس الفكرية الرصينة والقيادة الحكيمة قادر على تحقيق تحوّلات تاريخية كبرى.
اليوم، وإذ نحتفي بذكرى هذه الثورة المجيدة، يبقى واجبنا الحفاظ على مكاسبها وتطويرها، والاستلهام من روحها في مواجهة التحديات الراهنة، والسير قدماً نحو تحقيق طموحات شعب كوردستان في ظل قيادة واعية تدرك أهمية التوازن بين التمسك بالهوية القومية والإسهام في بناء عراق ديمقراطي تعددي.
إن دماء شهداء أيلول التي روّت أرض كوردستان، وتضحيات القائد الخالد الملا مصطفى البارزاني ورفاقه، تظل شعلة مضيئة في مسيرة النضال الكوردي، ونبراساً للأجيال القادمة في طريقها نحو غد أفضل.