لعبة الشطرنج الكبرى بآسيا الوسطى

في خطاب سياسي أثار جدلاً واسعاً، صرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب: "ما كان ينبغي لنا التخلي عنها أبداً"، في إشارة إلى قاعدة باغرام الجوية في أفغانستان. هذا التصريح ليس مجرد انتقاد لسياسة الانسحاب، بل هو إعلان نوايا جيوسياسية تُنذر بتحول استراتيجي عميق. في سياق يزداد فيه التنافس بين القوى العظمى، تُصبح أفغانستان نقطة محورية في صراع الهيمنة على آسيا الوسطى، التي لطالما كانت "القلب الجيوسياسي" لأوراسيا".
باغرام: من محاربة الإرهاب إلى الهيمنة الجيوسياسية
لم تكن قاعدة باغرام مجرد منشأة عسكرية، بل كانت رمزًا للنفوذ الأمريكي. بعد استثمار مليارات الدولارات في تطويرها، وصفها الجنرال الأمريكي المتقاعد ديفيد بترايوس بأنها "المركز العصبي للعمليات العسكرية في أفغانستان". تركها المفاجئ لم يُحدث فراغًا أمنيًا فحسب، بل أوجد فراغًا استراتيجيًا تتنافس القوى الكبرى على ملئه.
إن مطالبة ترامب باستعادة القاعدة ليست لاستئناف الحرب على الإرهاب، بل لخدمة هدفين استراتيجيين: التطويق الجيوسياسي للصين والسيطرة على الموارد الاستراتيجية.
* حصار التنين الصيني: يُعدّ ترامب الصين التحدي الأكبر للولايات المتحدة. تُعتبر قاعدة باغرام، بفضل قربها الجغرافي من إقليم شينجيانغ الصيني، منصة مثالية لمراقبة الأنشطة الصينية، وخاصة المتعلقة بالبرنامج النووي، ولعرقلة مبادرة الحزام والطريق التي تُعتبر مشروع بكين للهيمنة الاقتصادية. هذه الرؤية تتوافق مع الأفكار الجيوسياسية التي طرحها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، الذي قال إن "السيطرة على آسيا الوسطى تعني السيطرة على العالم".
* معادن المستقبل: تُشير تقارير البنتاغون إلى أن أفغانستان تمتلك احتياطات من المعادن النادرة، مثل الليثيوم، تُقدر قيمتها بأكثر من تريليون دولار. هذه المعادن ضرورية للثورة التكنولوجية والتحول إلى الطاقة النظيفة. السيطرة على هذه الموارد تُعدّ هدفًا استراتيجيًا لواشنطن، مما يعكس ما قاله الرئيس الكازاخستاني السابق نور سلطان نزارباييف: "ثروات آسيا الوسطى ستكون محط صراع في القرن الحادي والعشرين".
ردود الفعل: رفض إقليمي ومنافسة متزايدة
قوبلت مطالبة ترامب برفض حاسم من القوى الإقليمية، مما يُظهر تعقيدات المشهد السياسي في المنطقة.
* موقف طالبان: رفضت الحركة أي عودة للقوات الأجنبية، محذرة من أن "أي محاولة لعودة الاحتلال ستُقابل بالمقاومة". هذا الموقف يُلغي عمليًا أي فرصة لعودة أمريكية سلمية، ويُشير إلى أن أي تدخل جديد قد يُعيد إشعال الحرب.
* روسيا والصين: جبهة موحدة: تعمل موسكو وبكين على تعميق علاقاتهما الأمنية والاقتصادية في آسيا الوسطى. وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التدخلات الخارجية بأنها "تهدد الاستقرار الإقليمي"، بينما أكد وزير الخارجية الصيني وانغ يي على ضرورة "احترام سيادة أفغانستان". هذه التصريحات تُبرز تحالفًا استراتيجيًا هدفه الرئيسي هو احتواء النفوذ الأمريكي.
لاعب جديد: طموحات "توران الكبير" التركية
تُعدّ تركيا لاعبًا إقليميًا صاعدًا، تسعى لتعزيز نفوذها في آسيا الوسطى عبر مشروع "توران الكبير"، الذي يهدف إلى توحيد الشعوب التركية لغويًا وثقافيًا واقتصاديًا.
* الأبعاد الجيوسياسية: يمثل هذا المشروع تحديًا للنفوذ الروسي والصيني في المنطقة. تسعى تركيا إلى بناء علاقات قوية مع دول مثل أوزبكستان وكازاخستان، مما يضعها في منافسة مباشرة مع موسكو وبكين.
* الوجود الأفغاني: تُعدّ أفغانستان حلقة مهمة في هذا المشروع، حيث تُسعى أنقرة لتعزيز علاقاتها مع طالبان، واستخدام خبرتها العسكرية لتقديم خدمات أمنية، مما يمنحها موطئ قدم استراتيجي في المنطقة.
الخاتمة: مستقبل مضطرب و"حروب مؤجلة"
لا تُعدّ مطالبة ترامب مجرد تصريح انتخابي، بل هي إشارة إلى أن الولايات المتحدة، تحت قيادته المحتملة، ستعود إلى المنافسة العظمى. هذا التحول سيُحدث هزات جيوسياسية كبرى في آسيا الوسطى. وقد حذر منه المستشار الأمني القومي الأمريكي السابق زبيغنيو بريجنسكي، بقوله: "من يسيطر على أوراسيا يسيطر على العالم".
قد تكون فكرة استعادة باغرام غير واقعية، لكنها تضع المنطقة أمام خيارات صعبة. فإما أن يؤدي التنافس بين القوى الكبرى إلى صراع مباشر أو غير مباشر، أو أن تتوازن القوى في نظام متعدد الأقطاب. في كلتا الحالتين، ستكون آسيا الوسطى ساحة "لحروب مؤجلة" قد تشتعل في أي لحظة. تُذكرنا هذه المطالبة بكلمات الوزير البريطاني السابق اللورد بالمرستون: "ليس لدينا حلفاء دائمون، ولا أعداء دائمون؛ لدينا مصالح دائمة".
كما تُذكرنا بكلمات الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش: "من ينسحب من أفغانستان يدفع الثمن لاحقاً". السؤال أفغانستان، "مقبرة الإمبراطوريات"، قد تكون مرة أخرى ساحة لصراع دولي جديد، حيث تتصادم مصالح القوى الكبرى فوق أرض عانت بما فيه الكفاية من ويلات الحرب. السؤال الذي يبقى هو: هل ستتعلم الدروس من التاريخ، أم أن آسيا الوسطى على وشك دخول حرب جديدة مؤجلة؟