منها "النقشبندية" و"القادرية" .. التصوف الكوردي نبع روحي ينهل منه المصريون

عرف المصريون الطرق الصوفية منذ مئات السنين، وتُعد الطريقة النقشبندية من أكثر الطرق التي أثرت في الشعب المصري، وقد يكون هذا التأثير نابعًا من حب المصريين والعرب للمنشد الشيخ سيد النقشبندي الذي ارتبط اسمه بها كطريقة كردية. ولا يزال البحث عن جذوره قائمًا؛ إذ كشف الدكتور سيمور نصيروف، رئيس جمعية الصداقة المصرية الأذربيجانية، أن الشيخ سيد النقشبندي تمتد جذوره لإحدى مناطق أذربيجان، بحسب ما صرّح حفيده، الذي قال إن جدّه أخبره بأن جده الأكبر جاء قديمًا من أذربيجان إلى مصر للدراسة في الأزهر الشريف، لكنه بقي واستمر في مصر وتزوج مصرية، ثم توالى نسله في مصر.

وقد زار النقشبندي مشايخ الطريقة النقشبندية في كوردستان والعراق، في زيارة ضمن جولة رمضانية عام 1975، برفقة المهندس رضا حسن، صديق الشيخ النقشبندي وجامع تراثه.
يُعد الشيخ سيد محمد النقشبندي واحدًا من أعظم أصوات الابتهال والإنشاد في تاريخ مصر والعالم الإسلامي، حتى لُقِّب بـ"صوت السماء" و"إمام المبتهلين". لكن خلف هذا الصوت الملائكي نسب عريق، وجذور تمتد في التصوف الكردي من خلال الطريقة النقشبندية التي ارتبط اسمه بها وأورثته مقام الروح والوجدان.
وقد لعب الرئيس المصري محمد أنور السادات دورا مهما فى زيادة شهرته وانتشاره وتكريمه ، إذ كان السبب فى أن الملحن بليغ حمدى لحن له عدد من الابتهالات المهمة منها "مولاي أني بباك قد بسطت يدي" وغيره من الإبتهالات .

وُلد الشيخ النقشبندي في قرية دميرة بمحافظة الدقهلية، ونشأ طفلًا في مدينة طهطا بسوهاج، لكن نسبه العائلي ارتبط بالانتماء إلى الطريقة النقشبندية، وهي طريقة صوفية كبرى تُنسب إلى الإمام بها الدين محمد بن محمد البخاري المعروف بـ"نقشبند".
وقد انتشرت الطريقة من بخارى إلى خراسان وكردستان وتركيا، ثم وصلت إلى مصر عبر مشايخ أكراد وعلماء جاءوا مع موجات الصوفية في العصور العثمانية. ولهذا، يُعد لقب "النقشبندي" دليلاً على النسب الروحي المتصل بالتصوف الكردي-الخراساني.
طابع التصوف الكردي
النقشبندية والطابع الكردي: لم تكن الطريقة النقشبندية مجرد مدرسة صوفية في آسيا الوسطى، بل كان للأكراد دور بارز في حملها ونشرها في بلاد الأناضول والعراق وبلاد الشام، قبل أن تستقر في مصر. فالكثير من مشايخ الطريقة في العهد العثماني كانوا من الأكراد الذين حملوا تعاليمها إلى مصر.
المبتهل العالمي
يُعد سيد النقشبندي مبتهلًا عالميًا، حيث نشر ابتهالاته في مصر والعالم العربي وفي دول آسيا وأوروبا، وتُبث ابتهالاته دائمًا في المناسبات الدينية، وبخاصة في شهر رمضان.
يقول أحد أقاربه وجامع تراثه رضا النقشبندي: يظل اسم الشيخ سيد النقشبندي حاضرًا بقوة في ذاكرة المصريين والعالم الإسلامي، باعتباره أحد أعظم منشدي الابتهالات الدينية والتواشيح التي لامست وجدان الملايين. ومع ذلك، فإن تراثه الصوتي والمرئي ما يزال بحاجة إلى مزيد من التنقيب والبحث؛ إذ تكشف مفكراته الخاصة عن ثروة ضخمة لم يُكشف عنها بعد.
تسجيلات ضائعة وجهود فردية
تشير مفكرات الشيخ النقشبندي إلى أنه سجّل ما يقرب من 240 دعاءً للبرنامج العام بين عامي 1968 و1975. وعلى الرغم من أن الأجيال استمعت لعقود طويلة إلى أشرطة مكررة من هذه التسجيلات، فقد أُعيد اكتشاف نحو 40 دعاءً جديدًا خلال الأعوام الماضية، بفضل جهود عدد من الإعلاميين والمسؤولين المخلصين، منهم الدكتور حسن مدني، والأستاذ متحد فاهمي، والدكتور محمد لطفي، والمخرج المتميز كريم فرك.

لكن لا تزال مئات الأدعية والبرامج الإذاعية الأخرى حبيسة الأرشيف، تحتاج إلى جهد منهجي للعثور عليها. أما المواد المرئية المسجلة للتلفزيون المصري، فقد ساهم المخرج الكبير عبد العزيز عمران في الكشف عن بعضها، غير أن خروجه إلى المعاش أوقف هذه الجهود، ما جعل مهمة إحياء هذا التراث أصعب في الوقت الراهن.
امتداد العائلة لصوت الشيخ
لم ينقطع صدى النقشبندي داخل عائلته؛ فقد ورث حفيده أحمد شحاتة (ابن كريمته الحاجة ليلى) موهبة مميزة في الأداء، تأثر فيها بجده الذي كان يصحبه إلى الحفلات وهو طفل صغير. وكان يشارك في اللقاءات العائلية بإنشاد تراث الشيخ إلى جانب خاله الحاج أحمد النقشبندي، نجل الشيخ الراحل. وبرحيلهما، فقدت العائلة امتدادًا صوتيًا حيًا يعكس عبق الشيخ وإرثه الروحي.
تراث لم يُكتشف بعد
ما يزال كثير من تراث النقشبندي من تسجيلات وصور وحكايات محفوظًا في مفكراته الخاصة، التي تغطي الفترة من عام 1943 حتى وفاته عام 1975. وقد تشرّف بعض المهتمين بخدمة هذا الإرث بالوصول إلى حفلات نادرة من داخل مصر وخارجها لم يكن يتوقعها أحد، ثم قاموا بنشرها عبر الإنترنت لتكون متاحة أمام الجمهور. ورغم ذلك، فإن الحلم لا يزال قائمًا في الوصول إلى كامل تراث الشيخ، بما يحفظ مكانته كرمز خالد للإنشاد الديني.
كتاب مثير للجدل
في المقابل، أثار كتاب نشرته الكاتبة رحمة ضياء مؤخرًا جدلاً واسعًا، بعدما ادّعت أنه يتناول سيرة الشيخ سيد النقشبندي. فقد رفضت أسرة الشيخ هذا العمل رفضًا قاطعًا، معتبرة أنه مليء بالتخيلات والأوهام التي لا تمت بصلة إلى حياة الشيخ، بل تمثل ـ على حد وصفهم ـ إساءة صارخة لشخصيته التي كانت قرآنًا يسير على الأرض. وأكدت الأسرة أن أي عمل جاد عن النقشبندي لا بد أن يستند إلى مفكراته أو يُكتب تحت إشرافها المباشر، مشيرة إلى أنها قد تلجأ إلى القضاء لوقف ما وصفته بـ"العبث"، ومنع أي محاولة لادعاء الوصاية على تراث الشيخ دون وجه حق.
بين الماضي والمستقبل
يبقى تراث الشيخ سيد النقشبندي أمانة في أعناق محبيه ودارسي الإنشاد الديني، وهو تراث يحتاج إلى مشروع وطني لإحيائه بما يليق بمكانته. فبين التسجيلات الضائعة، والبرامج المخبوءة في الأرشيف، والمواد المرئية المجهولة، تظل هناك مسؤولية تاريخية لإعادة تقديم هذا الصوت الرباني للأجيال المقبلة، ليبقى خالدًا في وجدان الأمة كما كان دائمًا.
لم تكن النقشبندية فقط هي التي أثرت في المصريين من الطرق المتوارثة من الكردية، بل هناك طرق أخرى تنتعش حاليًا في الأوساط الدينية، ولها مريدوها في جميع مدن وقرى مصر.
ارتبط الأكراد بمصر عبر التاريخ في أكثر من مرحلة، وكان للتصوف دور محوري في اندماجهم داخل النسيج الروحي والثقافي المصري. فمنذ قدوم صلاح الدين الأيوبي وأسرته الكردية إلى مصر في القرن الثاني عشر، حملت الجيوش والعائلات الكردية معها إرثًا دينيًا وروحانيًا ظل أثره ممتدًا حتى اليوم.

يُعد التصوف القادري، المنسوب إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني (كردي الأصل)، من أبرز الطرق الصوفية التي انتقلت إلى مصر. فقد استقر بعض أحفاده ومريديه في القاهرة والصعيد، وأنشأوا زوايا ومساجد تحولت إلى مراكز إشعاع ديني وروحاني. وتوجد حتى اليوم زوايا قادريّة في حي السيدة زينب بالقاهرة، إلى جانب مقامات في مدن الصعيد مثل أسيوط وسوهاج.

ولم يقتصر الوجود الصوفي الكردي في مصر على القادرية فقط، بل امتد إلى النقشبندية والخلوتية، حيث انضم بعض المشايخ الأكراد لهذه الطرق ونقلوا معها تقاليد روحية خاصة أثرت في حلقات الذكر والموالد الشعبية.

وتوجد في مصر عدة مقامات لمتصوفة أكراد، أبرزها: ضريح الشيخ أحمد الكردي في القاهرة القديمة، ومقام الشيخ علي الكردي في أسيوط، الذي أصبح مزارًا يقصده المريدون من مختلف المحافظات.
إن التصوف الكردي لم يكن غريبًا عن البيئة المصرية، بل امتزج معها بسلاسة. فالمصريون الذين أحبوا حلقات الذكر والمدائح والموالد، وجدوا في الطرق الكردية امتدادًا لقيم الزهد وحب آل البيت والجهاد الروحي. ومن هنا، تحوّل التصوف إلى جسر اندماج جعل الأكراد جزءًا لا يتجزأ من الهوية الروحية لمصر.