
د. ابراهيم احمد سمو
كاتب كوردي
الاستفتاء الكوردي.. دم يسري في العروق لا خريطة على الورق

الوطن ليس مجرد حدود مرسومة على خريطة، ولا خطًا أسود يفصل بين دولة وأخرى، بل هو دم يسري في العروق، وتاريخ حي يتجدد في ذاكرة الأجيال. الوطن روح تنبض في قلب الإنسان قبل أن يكون مساحة من الأرض. ومن هنا قال الرئيس في بمناسبة يوم الاستفتاء كلمته الشهيرة: “الوطن ليس خريطة على الورق، بل دم يسرى في العروق، وما تزرعونه اليوم ستحصدونه غدًا”. قالها في لحظة مصيرية، والبلاد كلها تمر بمطبات سياسية، وتغيرات متسارعة، وتهديدات، وشعارات، ومناورات، وحوارات، ومشاورات، في وقت المنطقة كلها تعيش على صفيح ساخن.
لقد كانت لحظة الاستفتاء تتويجًا لمسيرة طويلة من الصمود والتضحيات. فمن كان بالأمس يوصف بالإرهاب، صار اليوم يُحتفى به ويُشرعن وجوده، ومن كان محظور الانتماء إليه صار يقود بلادًا ويتحكم في مصائر شعوب. الخرائط السياسية تغيّرت، والمعادلات تبدلت، وتفككت تحالفات لتُبنى أخرى. ومع ذلك بقي شيء واحد ثابتًا لم يتغير: صمود الكورد وإصرارهم على الثبات، بفضل قائدهم الذي جعل من نفسه مشروع استشهاد، مقاتلًا في صفوف البيشمەرگة، ورئيسًا لشعبه، وناطقًا باسم حلم الاستفتاء الذي صار علامة فارقة في تاريخ كوردستان.
ذلك اليوم لم يكن يومًا عابرًا يمكن أن يُمحى من ذاكرة التاريخ. كان يومًا استثنائيًا، حُفر في وجدان الكورد جميعًا، وأصبح شاهدًا على أن إرادة الشعوب أقوى من المؤامرات. كان يومًا أثبت فيه الكورد أنهم أصحاب حق، وأن هذا الحق لا يمكن أن يُلغى مهما تعاقبت الظروف. الاستفتاء صار حقيقة تاريخية ثابتة، راسخة في ذاكرة الأجيال، لا تمحوها التغيرات ولا تقلبات الزمن.
ورغم ردود الأفعال الدولية التي حاولت حينها كبح جماح هذه الخطوة، فإن ذلك التوقيع الكوردي المهيب أدهش العالم. وقد أثبتت السنوات أن المواقف تتغير، وأن ما كان مرفوضًا بالأمس قد يصبح مقبولًا اليوم، وأن ما كان يُحارب قد يتحول إلى واقع لا يمكن تجاوزه. انظروا إلى المنطقة: سوريا التي كانت مركز نفوذ إيراني على مدى أربعة عقود، شهدت انسحابًا إيرانيًا كلياً في أيام قليلة. لبنان تتجه اليوم شيئًا فشيئًا نحو المدنية بعيدًا عن هيمنة حزب الله. قادة من الصف الأول في حزب الله وحماس قُتلوا، وتبدلت الموازين. أما إسرائيل وإيران فدخلتا في حرب مفتوحة على مراحل، حرب الأيام التي لا أحد يعرف إلى أين ستقود.
المشهد الإقليمي كله يعيش على حافة الهاوية. التغيرات لم تعد نتاج قرارات محلية أو إقليمية فقط، بل باتت مرتبطة بزر واحد تضغطه الدول الكبرى، فتُغير الخريطة في لحظة. وفي ظل هذا الواقع المضطرب، يبقى الكورد جاهزين لأي مرحلة، بما يملكونه من أرض، وجغرافيا، وشعب، وبرلمان، وحكومة، وقادة لهم تجارب مؤسساتية أهلتهم لأن يكونوا في موقع من يعرف كيف يحكم ويقود.
الاستفتاء الكوردي لم يكن نزوة عابرة، بل كان ترجمة لإرادة شعبية تراكمت عبر أكثر من قرن من النضال. هذه الأرض رويت بالدماء، والثورات التي اندلعت لم يكن مصيرها أن تبقى حركات مؤقتة. بل إن ما زُرع على مدى مئة عام وأكثر لا بد أن يُحصد، وقد حُصد القليل بالفعل، لكن الكثير بقي ينتظر، وهذا الكثير صار اليوم أقرب من أي وقت مضى، وفقًا للمعطيات الجديدة.
وعليه، فإن مسؤولية الكورد اليوم تقتضي أن يكون كل فرد مشروعًا في سبيل الوطن، وأن يكون الجميع في جهوزية لليوم الموعود. اليوم الذي يتحقق فيه الفرج، ويُسمع الصوت الكوردي عاليًا تحت قبة الأمم المتحدة، بخطاب رسمي بلسان كوردي فصيح، يعلن للعالم أن هذا الشعب لم يعد مجرد ضيف على خرائط الآخرين، بل هو صاحب خريطة و قرار وسيادة.
لماذا لا يحدث ذلك؟ أليس الكورد أصحاب قضية عادلة؟ أليسوا أصحاب رئيس حمل روحه على كفه ودعاهم يومًا أن “هلموا جميعًا إلى الاستفتاء”؟ لقد لبّى الجميع النداء، وذهب الجميع إلى صناديق الاقتراع، وحصلوا على سند قانوني لا يمحوه الزمن، لأنه مستند إلى إرادة شعبية لا يمكن إنكارها.
اليوم، ونحن نعيد قراءة تلك اللحظة التاريخية، ندرك أن قيمة الاستفتاء لم تكن في نتيجته فقط، بل في رمزيته أيضًا. لقد كان إعلانًا بأن الكورد قادرون على توحيد صفوفهم خلف هدف واحد، وأنهم حين يقررون، يصنعون حدثًا يدوّن في ذاكرة العالم. وربما لهذا السبب لا تزال قوى عديدة تخشى من تكرار التجربة، لأنها تعلم أن هذه الأمة إذا أُتيحت لها الفرصة، فإنها ستنهض بما تملك من إرادة، وبما راكمته من تضحيات.
صحيح أن الظروف الإقليمية والدولية لم تكن مواتية حينها لتحقيق الاستقلال، لكن الصحيح أيضًا أن الاستفتاء أرسى قاعدة قانونية وسياسية ومعنوية لا يمكن التراجع عنها. لقد صار ورقة قوة بأيدي الكورد، يستحضرونها كلما دعت الحاجة، ليقولوا للعالم: لقد قررنا مصيرنا ذات يوم، وكتبنا كلمتنا بدمنا، ولن نتنازل عنها.
اليوم تتغير المعادلات في المنطقة بسرعة. القوى الإقليمية تعيد حساباتها، والدول الكبرى تغيّر استراتيجياتها. إيران لم تعد كما كانت، سوريا لم تعد كما كانت، لبنان يتغير، العراق يواجه تحديات داخلية وخارجية، والمنطقة كلها على أبواب تحولات عميقة. في خضم هذه التحولات، تبدو اللحظة الكوردية أقرب إلى النضج، وأقوى من أي وقت مضى.
إن الطريق إلى الأمم المتحدة قد يبدو طويلًا، لكنه لم يعد مستحيلًا. العالم تغيّر، والنظام الدولي لم يعد كما كان. وما دام الكورد يمتلكون برلمانًا وحكومةً وشعبًا موحدًا، وما داموا يستندون إلى شرعية الاستفتاء، فإن وصولهم إلى المنبر الدولي مسألة وقت وصبر واستثمار صحيح للظروف.
إن الاستفتاء لم يكن مجرد حدث عابر في تاريخ كوردستان، بل كان تأسيسًا لمرحلة جديدة. كان بمثابة إعلان أن الوطن ليس ورقة تُرسم حدودها بالقلم، بل هو دم يجري في الشرايين، وتضحيات تراكمت عبر الأجيال. كان رسالة إلى العالم أن الكورد لن يظلوا أسرى الجغرافيا المفروضة عليهم، بل إنهم قادرون على إعادة رسم خريطتهم بأيديهم.
ولذلك، فإن مسؤوليتنا جميعًا أن نكون على قدر هذا الحدث، أن نواصل السير في الطريق ذاته، وأن نُعدّ أنفسنا ليوم جديد يكتب فيه الكورد فصلًا آخر من تاريخهم، يوم يسمع فيه العالم خطابًا كورديًا بلسان صادق، يُعلن أن هذا الشعب استحق أن يكون له مكانه بين الأمم.
الخلاصة
إن الاستفتاء الكوردي لم يكن نهاية الطريق، بل بدايته. كان زرعًا مباركًا سيؤتي حصاده في الوقت المناسب. وما دام الوطن دمًا يسري في العروق، فلن يكون مجرد خريطة على الورق.