د. ابراهيم احمد سمو
كاتب كوردي
العلم الكوردستاني هوية ونضال شعب
لا يكتمل مشهد أيّ شعبٍ على وجه الأرض من دون عناصره الأساسية: أرضٌ واضحة المعالم، وشعبٌ حيّ نابض بالإرادة، وعَلَمٌ يجسّد الهوية، ونشيدٌ وطنيّ يختصر الذاكرة والوجدان. وإذا ما اجتمعت هذه الركائز، ووجدت سندًا دوليًا، يصبح مرور فكرة الدولة أمرًا ممكنًا ومشروعًا في الوعي الإنساني والسياسي. والشعب الكوردي، عبر تاريخه الطويل، يمتلك هذه المؤهلات مجتمعة منذ زمن بعيد، بما يكفي ليكون دولةً يحكمها قانون، ويجمع أبناءها دستور واحد، مستندًا إلى التاريخ والحق والشرعية.
واليوم، ونحن نحتفل بيوم رفع العلم الكوردستاني، نستحضر أكثر من قرنٍ من الزمن، ظلّ فيه هذا العلم حاضرًا، ينتقل من يدٍ أمينة إلى يدٍ أمينة، حاملاً معه قصة نضالٍ طويل، وتضحياتٍ جسام، من أجل الأرض، ومن أجل الإنسان الكوردي، ومن أجل الأجيال القادمة. لم يكن العلم مجرّد قطعة قماش ملوّنة، بل كان عنوانًا للكرامة، ورمزًا للصمود، وشاهدًا على مسيرة لا تعرف الانكسار.
لقد وُجدت الأرض قبلنا، ووجدنا نحن أنفسنا أبناءً لها، نحمل ترابها في الذاكرة والوجدان. أرضٌ لم تكن يومًا بلا شعب، وشعبٌ لم يعرف الركوع رغم ما تعرّض له من ويلات ومآسٍ متعاقبة. توالت الثورات، وتعاقبت النضالات، ومع كل انتصار، صغيرًا كان أم كبيرًا، كان العلم يُرفع عاليًا، يرفرف فوق القرى والمدن، معلنًا أن الهوية ما زالت حيّة، وأن الإرادة لم تنكسر.
نحن شعب نشعر بوجود أرضنا، وندرك وجودنا من خلالها. لنا نشيدٌ وطنيّ تحوّل إلى لحنٍ يسكن القلوب، وإلى نداءٍ تصغي له الآذان قبل العقول. عند المراسم الرسمية نقف له في صمتٍ مهيب، نعبّر فيه عن الاحترام والوفاء، وفي مناسبات الفرح نردّده مصحوبًا بالتصفيق والهتاف، لأن النشيد هو بداية الاحتفال، وبدايته إعلان للنصر والأمل معًا.
ولم يكن النضال الكوردي يومًا محصورًا في بقعة جغرافية واحدة، بل امتدّ عبر الوجود، ولا يزال حتى اليوم حاضرًا في أكثر من جبهة، دفاعًا عن الهوية الكوردستانية، ليس هنا فقط، بل في كل بقاع خريطة كوردستان التاريخية. ويقف التاريخ الحديث شاهدًا على ذلك، وخصوصًا انتفاضة الشعب الكوردي عام 1991، التي شكّلت نقطة تحوّل مفصلية في مسيرة التحرر، سبقتها ثورات عظيمة، من ثورة الشيخ عبد السلام، إلى جمهورية مهاباد.و ايلول و گولان و الانتفاضة
ومن جمهورية مهاباد انطلقت الحملة الكبرى لعلمها، من القاضي محمد، إلى الجنرال الملا مصطفى البارزاني، الذي كان خير خلفٍ لمن حمل العلم متحدّيًا الصعاب، وهو يعبر نهر آراس، حاملاً معه حلم شعب بأكمله. ظلّ العلم في أيدٍ أمينة، وانتقل لاحقًا إلى الرئيس مسعود البارزاني، الذي حافظ على مسيرة الثورات والحركات التحررية، وأسهم في ترسيخ التجربة السياسية عبر نشأة البرلمان الكوردستاني، وتشكيل حكومة إقليم كوردستان.
وفي تسعينيات القرن الماضي، أخذ يوم العلم الكوردستاني مجراه الصحيح، حين قُدّم مشروعه إلى البرلمان، وتمّ التصويت على السابع عشر من كانون الأول يومًا رسميًا للاحتفال بالعلم. عندها، انتقل العلم من يد القيادة إلى يد الشعب، ليصبح ملكًا للجميع، رمزًا مشتركًا يتقاسمه الكورد بالحب والاعتزاز. أيّ شعبٍ هذا الذي يحمل علمه بالقبلات، بعد أن خرج من خوفٍ طويل من أن يمزّقه الأعداء؟
واليوم، تنعم كوردستان بقدرٍ من الحرية، وترفرف الأعلام على قمم الجبال، وعلى المباني، وفي الساحات، رموزًا للشموخ والعزة. وقد كان لافتًا هذا الزخم الكبير من الأصوات، ورفع الأعلام، والتزيّن بها في الاحتفالات الأخيرة، حيث توحّد صوت الكورد جميعًا تحت راية واحدة. ومشهد البارحة، حين اجتمع جمهور نادي زاخو تحت هذا العلم، ليُسجّل إنجازًا عالميًا، لم يكن سوى دليل جديد على أن العلم يوحّد، وأن الفرح حين يُرفع باسمه يصبح مضاعفًا.
ومن هنا، نبارك أولًا للعلم الكوردستاني يومه المجيد، ونبارك ثانيًا هذا الإنجاز الكبير لجمهور نادي زاخو، مؤكدين أن العلم سيبقى حاضرًا في كل نصر، وشاهدًا على تاريخ شعبٍ لا يزال يكتب فصول كرامته بدمه وصبره وأمله