الدكتورة سهير القلماوي.. أول كوردية في الجامعات المصرية تتلمذ على يديها د. عصفور وفاروق شوشة وجيهان السادات
تُعد الأديبة والمفكرة الدكتورة سهير القلماوي رمزًا من رموز الفكر والأدب العربي الحديث، واسمًا استثنائيًا في تاريخ المرأة المصرية والعربية. احتفظت في سيرتها، واعتزت دائمًا، بانتمائها إلى جذور كردية، وكانت تفتخر بأنها أول فتاة تلتحق بالجامعة المصرية، وأنها تتلمذت على أيدي كبار المفكرين، وفي مقدمتهم الدكتور طه حسين الذي ربطتها به علاقة إنسانية وفكرية طويلة امتدت عبر سنوات، فكان لها أستاذًا ومعلمًا وصديقًا.ويعزى لها أنها أول من فكرت فى إنشاء معرض القاهرة الدولي للكتاب.
تزوجت من الدكتور يحيى الخشاب، أحد أبرز أساتذة اللغة العربية، وأنجبت منه الدكتور ياسين الخشاب، وقد تركت وراءها رصيدًا ضخمًا من المؤلفات والدراسات الأدبية والنقدية التي تزخر بها المكتبات العربية.

النشأة والجذور الكردية
نشأت سهير القلماوي في حي العباسية بالقاهرة في 20 يوليو 1911، حيث وُلدت في منزل الجد الكبير الذي كان يتكوّن من ثلاثة بيوت متجاورة أشبه بقصر متقن البناء، تتوسطه ساحة واسعة كان يلعب فيها سبعة عشر طفلًا من الأحفاد، وكانت سهير واحدة منهم، وهي الابنة الرابعة لوالديها.
تقول القلماوي إن والدتها كانت ابنة رجل عسكري من أصول كردية، رُقّي إلى رتبة “أميرالاي”، ثم صدر بحقه حكم بالإعدام، فهرب إلى مصر وتزوج من جدتها التي كانت تنتمي إلى قبيلة شركسية، وكانت تجيد العزف الموسيقي حتى وصلت إلى العمل في قصر السلطان عبد الحميد الثاني قائدةً للأوركسترا.
انتقلت الجدة إلى مصر واستمرت في عملها عازفة في قصر الخديوي، وهناك بدأت قصة تعارفها مع جدّ سهير القلماوي، حيث أهداه الخديوي لها بعد أن استقال من الجيش ورغب في الزواج والاستقرار، فأصبح مسؤولًا عن رعاية الشؤون الملكية.

ذكريات الطفولة الأولى
لم ترَ سهير جدتها، إذ توفيت بعد ولادتها بأربعين يومًا فقط، لكنها عرفت ملامحها وصفاتها من خلال أحاديث والدتها، التي كانت تصفها بأنها شديدة الجمال، وقد تناقلت العائلة قصصها وحكاياتها جيلاً بعد جيل، ووثقتها سهير لاحقًا في كتابها الشهير “أحاديث جدتي” الصادر عام 1935.
أما جدها المفضل، فقد فقدته وهي في السادسة من عمرها، إلا أنها ظلت تعيش في بيت العائلة الكبير وكأنه لا يزال بينهم.
قالت سهير في أحد حواراتها التليفزيونية القديمة: “البيت كان قصر بهوات”. فقد كانت الجدة – قبل رحيلها – تفرض نظامًا صارمًا في إدارة شؤون المنزل، وتعيش بنفس الأسلوب الذي اعتادته في القصور، ورغم كثرة الأبناء والأحفاد كانت لها هيبتها وسلطتها الخاصة.
تقول القلماوي: “الاحتفال بالمناسبات لم يفارق ذاكرتي، فقد كانت أيام العيد مميزة، يذبحون الأضحية ويُقيمون الأراجوز في الحديقة”.
ظلت سهير مع أسرتها في بيت الجد حتى بلغت السادسة عشرة، حين انتقلت إلى منزل جديد بناه والدها في حي العباسية. وكان لها أخ وأخت، وتقول: “كنا أربع بنات وولدين، لكن الموت أخذ النصف.

أسرة مترابطة وقوية
اتسمت علاقة الأم وشقيقتها بترابط أسري عميق، فكانتا – كما وصفت سهير – كـ”الخنصر والبنصر” لا تفترقان أبدًا، وانتقلت خالة سهير للسكن في منزل مجاور، ليظل بين الأسرتين حبل الود واللمة العائلية الذي بدأ في بيت الجد بالعباسية.
أما والد سهير القلماوي، فكان مصريًا من أصول كردية، يعمل طبيبًا في طنطا. التحقت والدتها بالعيش معه فترة قصيرة، لكنها لم تستطع التأقلم على الحياة هناك، فعادت إلى القاهرة لتكون قريبة من شقيقتها، بينما استمر الأب في السفر يوميًا إلى طنطا لمزاولة عمله.
مارس والدها مهنة الطب الجراحي لسنوات طويلة، حتى أُصيب بمرض المياه الزرقاء في العينين، مما اضطره لترك الجراحة والاكتفاء بالعمل طبيب باطنة.

قواعد صارمة ونظام لا يُكسر
كانت الأم الكردية الشركسية قوية الشخصية، درست في مدرسة تبشيرية، وأجادت ثلاث لغات. كانت صارمة في تربية أبنائها، فكل أوامرها نافذة لا تُناقش. ومن أبرز قواعدها: “لا أزور ولا أُزار” من أصدقاء الأبناء، و”يُمنع تجوّل الفتاة بمفردها في الشارع.
وعندما التحقت سهير بالجامعة، فرضت الأم عليها ألا تذهب إلا بصحبة شقيقها، وكانت تتصل بالجامعة لتطمئن على موعد خروجها ومسارها.
وترى سهير أن قوة شخصية والدتها تعود إلى تربيتها الصارمة على يد الجد والجدة، حيث لم يكن في بيتهم تفريق بين الرجال والنساء في الحقوق، بل كانت للمرأة حرية كاملة. وقد اشترط الجد ألا ترتدي بناته الحجاب، وألا يتزوجن قبل بلوغ الحادية والعشرين، في وقت كان زواج الفتيات في سن مبكرة هو السائد في أواخر القرن التاسع عشر.

ريادة أكاديمية وثقافية
بدأت سهير القلماوي مشوارها المهني بعد التخرج كأول محاضِرة في جامعة القاهرة عام 1936، وسرعان ما أصبحت أستاذة جامعية ثم رئيسة قسم اللغة العربية بين عامي 1958 و1967.
كما تولّت رئاسة الاتحاد النسوي المصري، ثم الهيئة العامة للسينما والمسرح والموسيقى عام 1967، ورئاسة ثقافة الطفل عام 1968، إلى جانب رئاستها الهيئة المصرية العامة للكتاب من عام 1967 حتى 1971، ثم هيئة الرقابة على المصنفات الفنية بين عامي 1982 و1985.
بيت العلم والفن
في شهادة للموسيقار الراحل طارق شرارة، قال:“أعتز بأنني أنتمي إليها، وأفتخر بأن خالتي هي المفكرة والأديبة الكبيرة سهير القلماوي، التي كانت بالنسبة لي أمي الثانية، بل أمي الحقيقية التي ربتني واحتضنتني. كنت أصغر إخوتي الخمسة، نعيش في بيت العائلة بالعباسية، وكانت خالتي سهير متزوجة من الدكتور يحيى الخشاب، عميد كلية الآداب بجامعة القاهرة وأستاذ اللغات الشرقية. لم يكن لديهما أبناء في تلك الفترة، فكنت أنا ابنها البكر والمقيم الدائم في منزلهما. هناك عشت أجمل ذكريات طفولتي، في بيت كان أشبه بـ”صندوق الدنيا” مليئًا بالحب والمعرفة والجمال".
ويضيف شرارة: “خالتي كانت إنسانة استثنائية تجمع بين الحزم والحنان، وبين الفكر والإبداع. كانت مكتبتها تمتد إلى كل زاوية من البيت، في كل غرفة تجد آلاف الكتب بالعربية واللغات الأجنبية. شجعتني على القراءة منذ صغري، وكنت أكتب الشعر بتأثيرها حتى كتبت كتابًا بعنوان “عزف على أوراق زمن” عن تاريخ الحاكم بأمر الله، وهو نوع من السيرة الذاتية الممزوجة بالبوح والذكريات لم أنشره بعد".
“علّمتني سهير القلماوي حب الموسيقى والفنون، فقد كانت تستمع إلى كورساكوف وشهرزاد، وإلى البوليرو لموريس رافيل، وتذوب عشقًا في صوت فيروز في سنواتها الأخيرة. وكان بيتها عامرًا بالأنغام والكتب في آنٍ واحد. حتى أمي كانت تعزف البيانو، مما جعل الموسيقى تسري في دمي".
وتابع: فى مذكراته عنها “كانت خالتي تحرص على النظام اليومي بدقة؛ تستيقظ باكرًا مع زوجها، تُعد القهوة الفرنسية في ركن مخصص لهما، وتفوح رائحة القهوة في البيت، ثم تُعد إفطارها الشهير الذي كانت تسميه “الخلطبيصة” — مزيج من الفول والطماطم والبيض مع قطع السجق أو البسطرمة — قبل أن يتوجها معًا إلى الجامعة.”
“كنت أراها دائمًا تقرأ أو تكتب أو تستقبل طلابها. كانت صارمة في التدريس لكنها أمّ حنون في الحياة. تتلمذ على يديها الآلاف، ومنهم الدكتور جابر عصفور وفاروق شوشة وجيهان السادات. وكانت نصيحتها الدائمة لنا: اقبلوا الآخر، وواصلوا القراءة، وطوّروا أنفسكم.”
ويحكي أيضًا:“خالتي لم تكن مجرد مفكرة أو أستاذة جامعية، بل كانت رمزًا لامرأة مصرية كردية الجذور كسرت الحواجز في زمن صعب. كانت أول مصرية تحصل على الدكتوراه، وأول من تولّى رئاسة معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، الذي حلمت به طويلًا وسعت لتحقيقه بإصرار لتجعل من الكتاب حقًا متاحًا لكل مواطن.”
“أتذكرها وهي تجمع أوراقها وتضع خططها في قلق وفرح، كأنها تستعد لولادة فكرة جديدة من رحم الحلم. كانت تجمعنا كأحفاد كل مساء لتحكي لنا “حواديت” قبل النوم. كنت مأخوذًا بطريقة سردها، فهي درست “ألف ليلة وليلة” وحصلت على الدكتوراه عنها، فكانت تعرف كيف تجعل من الحكاية درسًا في الحكمة والحياة.”
“لم يكن بيتها بيت صالونات كما كان شائعًا آنذاك، بل بيت علم وثقافة وموسيقى، وكانت الكتب عندها أهم من الطعام والشراب. أما علاقتها بالدكتور طه حسين فكانت علاقة تلميذة بأستاذها الأعظم. رأيته في بيتنا أكثر من مرة، طويل القامة، يضع نظارته السوداء، يصحح لها ويشجعها. هو من دعمها للالتحاق بقسم اللغة العربية رغم أنها كانت الفتاة الوحيدة بين الطلاب، وكتب مقدمة كتابها “أحاديث جدتي” في ثلاثين صفحة كاملة".

الإبنة البارة لطه حسين
شجعها الدكتور طه حسين على نشر مقالاتٍ صحفية إلى جانب عملها الأكاديمي بالجامعة، فكتبت لعدد من المجلات منها: اللطائف المصورة، العروسة، الهلال، أبوللو، الرسالة. كما أشرفت على صفحة المرأة في صحيفتي كوكب الشرق والبلاغ.
وفي عام 1934، كُلِّفت بإلقاء أحاديث إذاعية أسبوعية كل ثلاثاء، ثم أسند إليها طه حسين الإشراف على صفحة الأدب وصفحة المرأة في جريدة الوادى. كما عرض عليها المفكر الكبير أحمد أمين الكتابة في مجلة الرسالة مقابل خمسة جنيهات للمقال الواحد.
خرجت سهير القلماوي من الإطار الأكاديمي الضيق لتصبح فاعلة في الحياة الثقافية والاجتماعية، فتولت رئاسة الاتحاد النسوي المصري، ورابطة خريجات جامعة المرأة العربية، وحققت شهرة واسعة بمؤلفاتها التي تنوعت بين النقد والأدب والترجمة، ومنها: أحاديث جدتي، دراسة تحليلية في ألف ليلة وليلة، أدب الخوارج، في النقد الأدبي، ثم غربت الشمس، المحاكاة في الأدب، العالم بين دفتَي كتاب.
كما ترجمت العديد من الكتب والقصص، مثل: قصص صينية لبيرل بك، عزيزتي اللويتا، رسالة أبون لأفلاطون، وبعض مسرحيات ويليام شكسبير.
كانت أول امرأة تحصل على الجائزة الأولى من مجمع اللغة العربية عام 1941، وعندما تولّت رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب، أسست معرض القاهرة الدولي للكتاب، وسعت إلى جعل القراءة في متناول الجميع. كما أنشأت مكتبة في صالة مسرح الأزبكية لبيع الكتب بنصف ثمنها، ومنحت الفرصة لأكثر من ستين كاتبًا شابًا لنشر مؤلفاتهم ضمن سلسلة أطلقتها بعنوان “مؤلفات جديدة”.



