د. محمد صديق خوشناو
كاتب
تحولات ما بعد الانتخابات العراقية: قراءة أكاديمية في إعادة تشكيل موازين القوى
تُعدّ الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العراق محطةً مفصليّة لفهم طبيعة التحولات داخل البنية السياسية والاجتماعية للدولة. فعلى الرغم من استمرار محددات العملية الانتخابية التقليدية—المتمثلة بالمال السياسي، والضغوط المجتمعية، والتدخلات الإقليمية، وتوظيف إمكانات الدولة—إلا أنّ نتائجها كشفت عن إعادة توزيع واضحة للأوزان داخل البنية المذهبية والقومية للمشهد العراقي، ما يمنحنا فرصة لتحليل الاتجاهات العامة لصناعة القرار السياسي في المرحلة المقبلة.
إنّ إعادة قراءة النتائج لا تُعنى بتحديد الفائزين فقط، بل بفهم كيف سيُدار النظام السياسي في ظل تعقّد التوازنات بين بغداد وأربيل، وبين مكوّنات البيت الشيعي، وبين القوى السنية الصاعدة، وفي ظل استمرار التأثير الحاسم للقوى المسلحة غير المنضبطة.
أولاً: البنية الشيعية وإعادة تشكيل مركز الثقل
أسفرت الانتخابات عن تقدّم القائمة المدعومة من رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لتكون الكتلة الأكبر داخل الساحة الشيعية. إلا أن هذا التفوّق ظلّ رقماً غير كافٍ لتأسيس أغلبية سياسية مستقلة، وذلك لعدة اعتبارات:
1. تشظي البيت الشيعي بين قوى الإطار التنسيقي، والفصائل المسلحة، والتيارات الدينية والسياسية التقليدية.
2. غياب مركز قرار موحَّد قادر على حسم خيارات تشكيل الحكومة دون توافقات داخلية معقّدة.
3. امتلاك بعض القوى الشيعية الأخرى أدوات ضغط تتجاوز الأطر البرلمانية، بما يجعل أي حكومة تصطدم بها عرضة لعدم الاستقرار الأمني والسياسي.
وبذلك، فإن المكاسب العددية للسوداني لا تعني بالضرورة امتلاكه حرية تشكيل حكومة أغلبية، بل تؤشر فقط إلى إعادة تموضع داخل المكوّن الشيعي.
ثانياً: الحزب الديمقراطي الكوردستاني… صعود انتخابي وحضور استراتيجي
يُعدّ أداء الحزب الديمقراطي الكوردستاني في هذه الانتخابات أحد أهم التحولات البنيوية على مستوى العراق، إذ حصد الحزب أكثر من مليون ومائة ألف صوت، متصدّراً نتائج إقليم كردستان ومحافظات حيوية مثل نينوى.
1. دلالات الصعود الانتخابي
هذا الإنجاز يعكس ثلاثة متغيرات أساسية:
• تجدد الثقة الشعبية في نهج الحزب الديمقراطي الكوردستاني ومشروعه السياسي.
• ترسيخ دور القيادة التاريخية للرئيس مسعود بارزاني في تعزيز الاستقرار الداخلي، وقيادة حوارات تفاوضية رشيدة مع بغداد.
• اتساع قاعدة التأييد خارج نطاق القومية الكردية، خاصة في المناطق المشتركة، ما يشير إلى تحوّل الحزب إلى فاعل وطني لا إقليمي فقط.
2. نموذج الأداء الحكومي في إقليم كردستان
لا يمكن فصل الإنجاز الانتخابي عن الأداء الخدمي والمؤسساتي الذي قدمته حكومة إقليم كردستان، والذي شكّل مرجعية مقارنة لبقية محافظات العراق.
فقد وفّر الإقليم:
• كهرباء مستقرة بعيدة عن الانقطاعات المزمنة في بقية المحافظات.
• خدمات مياه وبنى تحتية أكثر انتظاماً.
• استقراراً أمنياً وإدارياً ساهم في تعزيز الثقة بين المواطن والمؤسسة الحكومية.
هذه التجربة المعتمدة على الإدارة الرشيدة جعلت الحزب الديمقراطي الكوردستاني يدخل الانتخابات وهو يمتلك “شرعية إنجاز” إلى جانب الشرعية السياسية.
3. مكان الحزب في المعادلة الوطنية
يمثل الحزب الديمقراطي الكوردستاني اليوم رأس الهرم الكردي وصاحب الدور المحوري في صياغة أي حكومة اتحادية، لا بوصفه ممثلاً قومياً فقط، بل بوصفه شريكاً مؤسساً في العملية السياسية منذ 2003.
ونتيجة لذلك، لا يمكن لأي معادلة حكومية جديدة أن تتجاوز وزن الحزب أو القيادة السياسية للرئيس مسعود بارزاني، التي تمثل نقطة توازن داخلية وإقليمية في آن واحد.
ثالثاً: الساحة السنية وإعادة تثبيت مراكز النفوذ
في البيئة السنية، أسهمت النتائج في ترسيخ زعامة كتلة “تقدم” في الأنبار ومحافظات عدة، مع بروز قوى منافسة ذات قواعد اجتماعية واسعة.
ورغم تنامي التنافس السني – السني، إلا أن أغلب هذه القوى تدرك أن البقاء خارج الحكومة في نظام شديد المركزية اقتصادياً يمثل خياراً مكلفاً، ما يجعل الساحة السنية مرشحة للانخراط في مفاوضات مرنة أكثر من كونها كتلة سياسية صلبة.
رابعاً: موازين القوة وصياغة الحكومة المقبلة
تقود النتائج إلى ترسيم مثلث مؤثر في البرلمان:
1. كتلة شيعية أولى بقيادة السوداني.
2. قوة كردية بارزة بقيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني.
3. واجهة سنية وازنة بقيادة الحلبوسي.
لكن هذا المثلث ليس كافياً لتشكيل حكومة أغلبية مستقرة بسبب عاملين رئيسيين:
• عدم قابلية البيت الشيعي للانقسام الحاد نتيجة تشابك المصالح والأذرع المسلحة.
• التعقيد الدستوري والسياسي للعلاقة بين بغداد وأربيل، وخاصة في ملفات النفط والغاز والموازنة والمادة 140.
لذلك، يبدو السيناريو الأكثر واقعية هو تشكيل حكومة “توافق مُحسّن” تعتمد على كتلة أساسية تقودها الحكومة الحالية، مع استيعاب قوى شيعية وكردية وسنية لضمان الاستقرار الأمني والسياسي.
خامساً: التحديات البنيوية لما بعد الانتخابات
إن نجاح المرحلة المقبلة يتوقف على قدرة القوى السياسية على معالجة ملفات ذات طبيعة تركيبية، من أبرزها:
1. حصر السلاح بيد الدولة وإنهاء الازدواجية الأمنية.
2. تعزيز اللامركزية الإدارية والمالية ضمن ما يسمح به الدستور.
3. تنظيم العلاقة بين بغداد وأربيل على أساس الشراكة الحقيقية لا الصفقات المؤقتة.
4. مكافحة الفساد البنيوي عبر إصلاح منظومات الرقابة والقضاء.
5. إطلاق استراتيجية اقتصادية تتجاوز الريع النفطي وتدعم القطاع الخاص.
6. الوفاء الدستوري بتنفيذ المواد العالقة مثل المادة 140 وملف النفط والغاز.
وفي الختام نقول إنّ العراق يقف اليوم أمام مفترق طرق حقيقي. فالانتخابات قد أعادت رسم الأوزان داخل الخريطة السياسية، لكنها لم تغيّر قواعد اللعبة. ومع ذلك، فإن بروز الحزب الديمقراطي الكوردستاني بقيادة الرئيس مسعود بارزاني كفاعل وطني متقدم يفتح المجال لإعادة هندسة العلاقة بين المركز والإقليم على أسس أكثر استقراراً ووضوحاً.
ويبقى السؤال المركزي:
هل سينجح النظام السياسي في تحويل هذه النتائج إلى فرصة للإصلاح والتوازن، أم سنشهد دورة جديدة من إدارة الأزمات بدل حلّها؟
الجواب مرهون بقدرة القوى السياسية على تقديم مشروع دولة يتقدّم على مصالح الفئات والجماعات، وعلى الاعتراف بأن استقرار العراق بات مرتبطاً أكثر من أي وقت مضى باستقرار العلاقة بين بغداد وأربيل، وبإرساء معادلة حكم رشيدة تنهي حوار القوة لصالح قوة الحوار.