عاش فيها الأمراء والمشايخ والفنانين .. شوارع وحارات وأضرحة ومقامات شيدها الكورد .. ولازالت مزارات وآثار شامخة

عاش فيها الأمراء والمشايخ والفنانين .. شوارع وحارات وأضرحة ومقامات شيدها الكورد .. ولازالت مزارات وآثار شامخة
عاش فيها الأمراء والمشايخ والفنانين .. شوارع وحارات وأضرحة ومقامات شيدها الكورد .. ولازالت مزارات وآثار شامخة

يرى محللون وأساتذة التاريخ أن الشواهد والوثائق والبناءات والأضرحة والمقامات التي شيدها الكورد فى مصر هي أكبر شاهد على قوة تاثيرهم وانهم أمه قوية .

فهذه الأضرحة والمقامات التي تنتشر في القاهرة وصعيد مصر والدلتا. هذه المقامات لم تكن مجرد مبانٍ حجرية، بل صروح تحمل ذاكرة التاريخ وتُجسّد الدور الذي لعبته الأسر والبيوتات الكردية في مصر منذ العصر الأيوبي وحتى الدولة العثمانية.

وقد شكّلت رحلة البحث في هذه الأضرحة فرصة لإعادة قراءة حضور الكُرد في مصر، ليس فقط كقادة وسلاطين، بل كرواة للروح والعلم والتصوف، وكمؤسسين لمعالم بقيت شاهدة على أدوارهم وعلى الروابط العميقة بين الشعبين.

 

أبي الدرداء مقام بناه الكورد بالأسكندرية

من الأضرحة التي ارتبطت بوجود الكرد في مصر ضريح الصحابي أبي الدرداء في الإسكندرية، والذي شيده معماريون من أصول كردية في العهد العثماني. ورغم أن الجثمان الحقيقي للصحابي موجود في دمشق، إلا أن المقام السكندري ظل مركزًا للبركة والتبجيل، وتوارثت عائلات كردية مهمة خدمته.

الضريح تعرض لمطاردة من مشروع لتغيير خط الترام في بدايات القرن العشرين، لكن الأهالي—وبحسب الروايات الشعبية—رفضوا المساس به، ووقف بعض المعماريين الكرد ضد إزالته. ويذكر التراث الشعبي قصصًا حول كرامات نسبت له، ما زالت جزءًا من الذاكرة الجماعية لسكان الإسكندرية.

يقول الدكتور محمد عبد الستار البدري، الباحث في التراث الإسلامي، إن “المقامات الكردية في مصر ليست مجرد آثار قديمة، بل هي جزء من مسار طويل لحضور ديني وروحي ساهم فيه علماء وقادة صوفيون من أصول كردية، كانوا جزءًا من حركة العمران الروحي في البلاد”.

ويضيف أن المصريين تعاملوا مع هؤلاء الرموز كما تعاملوا مع أولياء بلدهم، فترسخت محبتهم وتكويناتهم العلمية والروحية في الوجدان الشعبي. ويرى البدري أن هذا الإرث “يعكس قوة التمازج بين الكرد والمصريين، فالمقامات لم تُبنَ من أجل الكرد وحدهم، بل أصبحت ملكًا للناس جميعًا”.

 

ويستعرض البدري أهم هذه المقامات، وفي مقدمتها ضريح صلاح الدين الأيوبي، الذي لا يزال، رغم بساطة معالمه الحالية داخل المدرسة الصلاحية بالقاهرة، علامة بارزة على عصر ذهبي وحضور كردي فاعل في المنطقة.

يشير إلى أن الأيوبيين لم ينشئوا دولتهم فقط، بل أرسوا تقاليد عمرانية وروحية، ومنها بناء المقامات للأولياء والعلماء الذين شاركوا في نهضة القاهرة. 

ويضيف: “ارتبط اسم صلاح الدين بإنقاذ القدس، لكن أثره الروحي في مصر ظل ممتدًا عبر المؤسسات والمدارس والقباب، ومنها ضريحه الذي بقي مقصدًا للتأمل والزيارة”.

ومن المقامات ذات الأصول الكردية أيضًا مقام السيدة “شجرة الدر”، رغم الجدل حول جذورها، إلا أن معظم المصادر التاريخية ترجّح انتماءها إلى أصول كردية.

يوضح الدكتور البدري أن ضريح شجرة الدر في القلعة “يمثل امتدادًا لمرحلة دقيقة في تاريخ مصر، كانت فيها المرأة الكردية إحدى صناع القرار السياسي، وهو أمر فريد في تاريخ المنطقة”.

ويضيف أن الزيارة المتكررة للضريح تأتي من تقدير المصريين لدورها الذي تجاوز السياسة إلى دعم حركة البناء الديني والعلمي في الفترة الأيوبية.

 

مقام العفيفيى القوصي 

ومن الأضرحة التي تُبرز الحضور الديني والعلمي للكرد كذلك مقام العفيفي في قوص، وأضرحة الأمراء الأيوبيين المنتشرة في القاهرة خاصةً في سفح المقطم وما حول القلعة.

ويؤكد الباحث التاريخي مصطفى محمود الأيوبي أن هذه المقامات “لم تكن مجرد مدافن للأمراء، بل كانت جزءًا من برنامج ديني معماري وضعه الأيوبيون لإحياء قيم العلم والزهد والتصوف”.

ويضيف أن كثيرًا من هذه المباني “جُدّد أكثر من مرة عبر القرون بجهود مصرية خالصة، ما يعكس أن المصريين رأوا فيها جزءًا من هويتهم، لا أثراً لغريب”.

ويشير الأيوبي إلى أن الكرد في فترات لاحقة، خاصة في العصر العثماني، أسسوا أضرحة لرموزهم من المشايخ والقادة العسكريين الذين استقروا في القاهرة، وأصبح لبعضهم طرق صوفية امتدت فروعها في الصعيد والدلتا.

ويّبين أن “الطرق الرفاعية والقادرية” كانتا من أبرز الطرق التي حملت إرث شخصيات كردية جليلة، وظلت مقاماتهم مراكز للذكر والزيارة والمحبة.

 

ترميم قباب الأجداد 

ويرى الدكتور كمال عثمان، المتخصص في التراث الكردي، أن الحفاظ على هذه المقامات لم يكن دورًا قامت به الدولة فقط، بل كان عبر مبادرات مجتمعية من أحفاد هذه البيوتات الكردية الذين استقروا في مصر.

يقول: “الكرد في مصر كانوا دائمًا جزءًا من نسيج المجتمع، اندمجوا فيه دون أن يتخلوا عن احترام أسلافهم. فتجد عائلات كردية مصرية ساهمت في ترميم قبب ومقامات أجدادها، وفي رواية سيرهم للناس، بما يحفظ الذاكرة ويدعم المشترك الروحي بين البلدين”.

ويؤكد أن “الاحترام الذي يبديه المصريون لهذه المقامات يعكس نظرتهم العميقة للكرد، باعتبارهم شركاء في صناعة التاريخ”.

كما يشير عثمان إلى الدور الثقافي الذي لعبته المساجد والمدارس الأيوبية ذات الطابع الكردي، والتي تحولت بمرور الزمن إلى مراكز دينية وتعليمية خرج منها علماء وزهّاد ارتبطت سيرهم بالمجتمع المصري.

ويضيف أن هذه العمارة الروحية “لم تبقَ على حالها؛ فقد طورها المصريون، ودمجوها في سياقهم المحلي، ما جعلها جزءًا حيًا من التراث الروحي المصري”.

 

رموز كوردية مشتركة 

ويتفق مع هذا الرأي الباحث سامر زكريا، الذي يرى أن “المقامات الكردية في مصر تحولت إلى رموز مشتركة، يتعامل معها المصريون بلا أي اعتبارات عرقية، بل بما تمثله من بركة وأثر روحي”.

ويضيف زكريا أن بعض هذه المقامات، مثل ضريح شجرة الدر وضريح العفيفي، أصبحا مقصدًا للباحثين في العمارة الإسلامية، لما يحمله كل منهما من سمات معمارية تعكس روح العصر الأيوبي، والاتجاه الروحاني الذي حملته الطرق الصوفية ذات الجذور الكردية.

ولا يخفى على أحد أن كثيرًا من هذه المواقع شهد عمليات ترميم واسعة خلال العقود الأخيرة، سواء ضمن مشاريع وزارة الآثار أو مبادرات الحفاظ على التراث.

ويعتبر الدكتور البدري أن “إعادة إحياء هذه المقامات لا يخدم فقط الذاكرة الكردية، بل يخدم التراث المصري بأكمله، لأننا نتعامل معها كجزء من التاريخ الإسلامي المتنوع، الذي يضم العرب والكرد والشراكسة والترك، وكل من مرّ بقاهرة المعز”.

ويضيف أن أفضل ما يميّز هذه التجربة أن الزائر العادي — وليس الباحث فقط — يشعر أن هذه المقامات جزء من حياته اليومية ومن ذاكرة مدينته.

 

درب الجماميز: الأثر الشعبي الأكبر للأكراد

يعد درب الجماميز الذي تعود تسميته غلى أنه كان مميزا باشجار الجميز ، ويسكنه الأمراء والفنانين منهم سراج بك نجيب الممثل الشهير والشيخ محمد رفعت .

وإذا كانت الأضرحة الأيوبية تمثل الوجه الرسمي للوجود الكردي، فإن مجموعة الشيخ يوسف الكردي في درب الجماميز تمثل أقوى تعبير عن الحضور الشعبي والاجتماعي للأكراد في مصر.

يتكوّن المجمع من: سبيل لخدمة سكان الحي والمسافرين. وكتاب لتعليم القرآن والأحرف الأولى للصغار. وزاوية تعد مركزًا للطريقة الصوفية التي انتسب إليها الشيخ. وضريح صغير لكنه ذو قيمة روحية كبيرة لدى سكان المنطقة.

شُيّدت هذه المجموعة في العصر العثماني، وهي واحدة من الآثار القليلة التي تحمل اسم “الكردي” صراحة على نقوشها. وقد لعب أحفاد الشيخ ومريدوه دورًا في الحفاظ على المكان، وتوارثت بعض العائلات مهمة خدمته وتنظيفه وفتح أبوابه للمريدين.

 

إن وجود هذه المجموعة في قلب حي السيدة زينب، أحد أكثر مناطق القاهرة عمقًا في التدين الشعبي، يثبت أن الأكراد لم يكونوا مجتمعًا منعزلًا، بل انخرطوا في الحياة الروحية اليومية للمصريين، وأسهموا في بناء مؤسسات دينية ذات طابع خيري وتعليمي.

إن قراءة المقامات الكردية في مصر ليست محاولة لإبراز حضور عرقي بقدر ما هي دعوة للتأمل في هذا التاريخ المتداخل، الذي لم يعرف الحواجز بين شعوبه.

فهذه الأضرحة التي ما زالت عامرة بزوّارها تشهد على أن الروح الإنسانية تتجاوز الحدود، وأن مصر احتضنت الكرد ليس بوصفهم مهاجرين، بل شركاء في بناء دولتها وروحها وثقافتها.

وهكذا بقيت المقامات شامخة، تحمل في قبابها رسالة المحبة المشتركة بين المصريين والكرد، وتروي حكاية ممتدة من الاندماج الروحي والثقافي الذي لم يزل مستمرًا حتى اليوم.