"الشرق الأوسط الجديد": إعادة رسم الخرائط وبناء السلام وتوسيع اتفاقيات إبراهيم

"الشرق الأوسط الجديد": إعادة رسم الخرائط وبناء السلام وتوسيع اتفاقيات إبراهيم
"الشرق الأوسط الجديد": إعادة رسم الخرائط وبناء السلام وتوسيع اتفاقيات إبراهيم

ينظر معظم السياسيين والمحللين في الشرق الأوسط إلى المصطلح الجديد "الشرق الأوسط الجديد" على أنه مشهد متحول، يتميز بظهور دول جديدة وتفكك دول قائمة. ومع ذلك، فإن الواقع مختلف تمامًا عن هذا التحليل. ومع ذلك، يبقى الهدف الأساسي هو تحقيق سلام دائم في المنطقة.

أصبحت عبارة "الشرق الأوسط الجديد" مصطلحًا محددًا في الجغرافيا السياسية للقرن الحادي والعشرين. بعد أن ارتبط الشرق الأوسط سابقًا بالصراع المتجذر والانقسام الأيديولوجي والتدخل الخارجي، يدخل اليوم حقبة من التفاؤل الحذر، تتميز بالتطبيع الدبلوماسي والتنويع الاقتصادي وإعادة التنظيم الاستراتيجي. ويشكل تطوران مترابطان محور هذا التحول: ظهور "خرائط" سياسية واقتصادية جديدة داخل المنطقة، وتوقيع اتفاقيات إبراهيم - وهي سلسلة من اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والعديد من الدول العربية.

تشير هذه الاتجاهات مجتمعة إلى شرق أوسط يزداد براغماتية وترابطًا وتطلعًا إلى المستقبل. ومع ذلك، يثير هذا التحول أيضًا أسئلةً معقدة: ما الذي تعنيه "الخرائط الجديدة" للسيادة والنظام الإقليمي؟ هل يمكن للسعي إلى السلام أن يتعايش مع صراعاتٍ لم تُحل بعد، كالقضية الفلسطينية والكورديه؟ وإلى أي مدى يمكن لاتفاقيات إبراهيم أن تتوسع واقعيًا دون إثارة ردود فعلٍ عنيفة أو تعميق الانقسامات؟ 

يستكشف هذا المقال هذه الأسئلة من خلال دراسة ما يعنيه "الشرق الأوسط الجديد" من خلال ثلاثة محاور رئيسية: إعادة رسم الحدود السياسية والاقتصادية، والسعي المتطور لتحقيق السلام والاستقرار، وتوسع اتفاقيات إبراهيم وتداعياتها. وفي نهاية المطاف، يُجادل المقال بأن "الشرق الأوسط الجديد" لا يُمثل رؤيةً مثالية، بل هو تفاوضٌ مستمرٌ بين الواقعية والمثالية، والقوة والتعاون، والتقاليد والتغيير.

أولاً: خرائط جديدة للشرق الأوسط: 

من الحدود إلى الشبكات. يشير مفهوم "الخرائط الجديدة" في الشرق الأوسط إلى تحول في التحالفات الإقليمية والممرات الاقتصادية أكثر منه إلى تغييرات حدودية حرفية. اتسم الشرق الأوسط في القرن العشرين بحدود سياسية ثابتة، رسمتها قوى استعمارية غالبًا ما أخفقت في عكس الواقع الثقافي والتاريخي للمنطقة بدقة. أما الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين، فيُعرّف بشكل متزايد بشبكات التعاون بدلًا من خطوط التقسيم.

تُعدّ الخريطة الاقتصادية من أبرز "الخرائط الجديدة". وتُجسّد مبادرة الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، التي أُعلن عنها في سبتمبر/أيلول 2023، كيف تُرسّخ دول الشرق الأوسط مكانتها كجسور بين آسيا وأوروبا وأفريقيا. يجمع هذا الممر بين النقل والطاقة والبنية التحتية الرقمية ومراكز الخدمات اللوجستية، مُعيدًا رسم خطوط التجارة بفعالية تتجاوز نقاط الاختناق ومناطق الصراع التقليدية. في المقابل، يُعد سعي العراق لمبادرة طريق الحرير محاولةً لإعادة تموضعه كممر تجاري اقتصادي رئيسي بين آسيا والشرق الأوسط وأوروبا، مما يعزز استقراره وازدهاره، وهو بلدٌ عانى عقودًا من الصراع.

وبالمثل، تعمل دول مجلس التعاون الخليجي على تعميق الترابط الداخلي من خلال شبكات الطاقة المشتركة، وشبكات السكك الحديدية، والتكامل الرقمي - وهي مشاريع مرتبطة بالرؤى الوطنية لدول مثل المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة. تشير هذه "الخرائط" إلى تحول من الجغرافيا السياسية الصفرية إلى الترابط المتبادل المفيد للطرفين.

وسياسيًا، تُعاد رسم خريطة المنطقة أيضًا من خلال التطبيع الاستراتيجي وتنويع التحالفات. لعقود من الزمن، انقسم الشرق الأوسط إلى معسكرات متعارضة - العرب مقابل إسرائيل، السنة مقابل الشيعة، الموالون للغرب مقابل المناهضين له. واليوم، يُعاد تشكيل العديد من خطوط الصدع هذه. يكشف تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية بموجب اتفاقيات إبراهيم، وكذلك التقارب السعودي الإيراني بوساطة الصين عام 2023، عن تفضيل متزايد للتعايش البراغماتي. هذا لا يمحي الخصومات القديمة، ولكنه يُشير إلى تحول نحو الدبلوماسية كأداة للبقاء والتقدم. لذا، فإن "الخريطة الجديدة" للشرق الأوسط لا تُحددها الحدود العسكرية، بل شبكات من التعاون الاقتصادي والتكنولوجي والدبلوماسي و الأمني تتجاوز الحدود التقليدية.

ثانيًا: السعي لتحقيق السلام: 

من إدارة الصراعات إلى الدبلوماسية البناءة: لطالما كان السعي لتحقيق السلام هدفًا صعبًا في الشرق الأوسط. لقد أعاقت الصراعات في فلسطين ولبنان والعراق واليمن وسوريا وإيران الاستقرار الإقليمي لعقود من الزمن. ومع ذلك، هناك تحول تدريجي ولكنه مهم من إدارة الصراعات إلى الدبلوماسية البناءة.

يتميز "الشرق الأوسط الجديد" بقادة ينظرون إلى السلام بشكل متزايد كضرورة استراتيجية بدلاً من مجرد طموح أخلاقي. يتطلب الترابط الاقتصادي والاستثمار العالمي والحاجة إلى التحديث المحلي الاستقرار. ونتيجة لذلك، سعت دول مثل الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب وحتى السودان إلى التطبيع مع إسرائيل للحصول على التكنولوجيا والتعاون الدفاعي والدعم الاستراتيجي الأمريكي. كما أبدى البرلمان الأوروبي، إلى جانب المملكة العربية السعودية - التي لطالما كانت حامية التضامن العربي والإسلامي - بعض الانفتاح على التطبيع، وإن كان بحذر، نظرًا للحساسيات المحلية والإقليمية المحيطة بالقضية الفلسطينية. بالإضافة إلى ذلك، يشير التقارب الأخير بين السعودية وإيران إلى أن حتى الخصوم القدامى يدركون أن الصراع المستمر يقوض أهدافهم الإنمائية الوطنية الأوسع.

ومع ذلك، لا يزال السعي إلى السلام محفوفًا بالمخاطر. لا يزال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني غير المحلول يُلقي بظلاله على الدبلوماسية الإقليمية. ترى العديد من المجتمعات العربية أن التطبيع دون حل للقضية الفلسطينية غير مكتمل أو غير مقبول أخلاقياً. في هذا الصدد، بينما يُظهر "الشرق الأوسط الجديد" تقدماً نحو التطبيع، فإنه لا يزال مثقلاً بتاريخه.

كما أن القضية الكردية لا تزال تعاني من غياب حل سلمي. فبعد سنوات من الحرب، أدركت الدول التي يعيش فيها الأكراد أن السبيل لمعالجة هذه المشكلة ليس الحرب، بل الحوار لتحقيق الازدهار للجميع.

لن يتطلب تحقيق السلام الحقيقي اتفاقيات ثنائية فحسب، بل يتطلب أيضاً أطراً شاملة تُلبي احتياجات وتطلعات جميع شعوب المنطقة. بحذر، نظراً للحساسيات المحلية والإقليمية المتعلقة بالقضية الفلسطينية. وبالمثل، يُشير الانفراج السعودي الإيراني إلى أن حتى الخصوم القدامى يُدركون أن الصراع الذي لا نهاية له يُقوّض أهدافهم الإنمائية الوطنية الأوسع.

ومع ذلك، لا يزال السعي لتحقيق السلام هشاً. لا يزال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني غير المحلول يُلقي بظلاله على الدبلوماسية الإقليمية. ترى العديد من المجتمعات العربية أن التطبيع دون تسوية فلسطينية غير مكتمل أو غير مقبول أخلاقياً. بهذا المعنى، بينما يعكس "الشرق الأوسط الجديد" تقدماً نحو التطبيع، فإنه لا يزال مُثقلاً بالماضي. إن السلام الحقيقي لا يتطلب اتفاقيات ثنائية فحسب، بل يتطلب أيضا أطرا شاملة تعالج احتياجات وتطلعات جميع الشعوب في المنطقة.

ثالثًا: اتفاقيات إبراهيم: هيكلية جديدة للتعاون الإقليمي

تمثل اتفاقيات إبراهيم لعام 2020، التي توسط فيها البيت الأبيض في عهد ترامب، تحولًا هامًا في دبلوماسية الشرق الأوسط، حيث قامت إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان بتطبيع العلاقات دون اتفاق سلام إسرائيلي فلسطيني شامل سابق. مدفوعةً بالبراغماتية الاستراتيجية والمخاوف المشتركة بشأن إيران والتطرف والعجز التكنولوجي، عززت هذه الاتفاقيات، التي يسّرتها الولايات المتحدة، شراكات اقتصادية أيضًا. وسرعان ما أقامت الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل تعاونًا في مجالات الطاقة والسياحة والأمن السيبراني وتكنولوجيا الصحة، مما أدى إلى نمو سريع في التجارة.

يعتمد مستقبل الاتفاقيات على التوسع والمأسسة، مع احتمالية أن تحمل المشاركة السعودية آثارًا جيوسياسية تحويلية. وبينما تربط الرياض التطبيع بالتقدم في القضية الفلسطينية، فإن تعاونها الأمني ​​المتنامي مع واشنطن وحوارها مع إسرائيل يشيران إلى تحول في الموقف. وقد تشارك عُمان والكويت تدريجيًا أيضًا، لا سيما إذا تعززت الحوافز الاقتصادية. 

تُمثل اتفاقيات إبراهيم تحولاً نحو التعاون الاستباقي، إذ تُحوّل التركيز الإقليمي من دبلوماسية تُركز على الأزمات إلى دبلوماسية تُركز على المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، مما يُعيد صياغة سياسات الهوية. ومع ذلك، يتطلب النجاح على المدى الطويل شموليةً جميع سكان المنطقة دون استثناء. ولضمان الاستدامة، يجب أن تتطور الاتفاقيات إلى ما هو أبعد من مجرد شراكات النخبة، لتشمل دبلوماسية بين الشعوب، والتبادل الثقافي، والمبادرات المشتركة التي تُعالج بطالة الشباب، والتعليم، والقدرة على التكيف مع تغير المناخ.

رابعًا: التحول الاقتصادي: التنويع الاقتصادي بعيدًا عن النفط

لعلّ أبرز جوانب الشرق الأوسط الجديد يكمن في تحوله الاقتصادي. فعلى مدى عقود، شكّلت الثروة النفطية أساسًا للهياكل السياسية والاجتماعية في ممالك الخليج. وقد أدى نموذج الدولة الريعية - حيث وزّعت الحكومات عائدات النفط للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي - إلى الرخاء، لكنه أدى أيضًا إلى التبعية وانعدام الكفاءة ومحدودية الابتكار. وقد دفع التحول العالمي نحو الطاقة المتجددة، إلى جانب تقلب أسعار النفط، اقتصادات الشرق الأوسط إلى إعادة تصور مستقبلها.

أطلقت دول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر استراتيجيات وطنية طموحة لتنويع اقتصاداتها. وتهدف رؤية المملكة العربية السعودية 2030، التي يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، إلى تقليل الاعتماد على عائدات النفط، وتوسيع القطاع الخاص، وتطوير قطاعات مثل السياحة والترفيه والطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي.

وتركز رؤية الإمارات العربية المتحدة 2071 بالمثل على الاستدامة والصناعات القائمة على المعرفة والقدرة التنافسية العالمية. تُجسّد مشاريع ضخمة مثل نيوم في المملكة العربية السعودية - وهي مدينة ذكية طموحة تُجسّد قفزة الأمة نحو المستقبل - ومعرض إكسبو 2020 دبي (الذي أُقيم عام 2021 بسبب الجائحة) طموح المنطقة في أن تصبح مركزًا عالميًا للابتكار والتواصل. كما مثّلت استضافة قطر الناجحة لكأس العالم لكرة القدم 2022 دليلًا واضحًا على كيفية استفادة دول الخليج من القوة الناعمة والأحداث العالمية لإعادة تشكيل صورتها الدولية. تُمثّل هذه التطورات تحولًا أيديولوجيًا هامًا: لم يعد يُنظر إلى القوة الاقتصادية على أنها نتاج الموارد الطبيعية فحسب، بل أيضًا نتيجة لرأس المال البشري والتقدم التكنولوجي والتعاون الدولي. يسعى الشرق الأوسط الجديد إلى إعادة تعريف الرخاء ليس باعتباره ثروةً ريعية، بل باعتباره إنتاجيةً وإبداعًا وتنافسيةً في اقتصادٍ معلوم.

خامسًا: المستقبل: بين المثالية والواقعية

"الشرق الأوسط الجديد" ليس يوتوبيا، بل يظل منطقةً مليئةً بالتناقضات، حيث يتعايش التحديث مع القمع، والابتكار مع عدم المساواة، والسلام مع العنف المستمر. ومع ذلك، ثمة تحولٌ جذريٌّ جارٍ. بدأت الدول تُدرك أن البقاء في القرن الحادي والعشرين لا يعتمد فقط على القوة العسكرية، بل أيضًا على التنوع الاقتصادي والتقدم التكنولوجي والمرونة الدبلوماسية.

إذا توسّعت اتفاقيات إبراهيم مع دمج عملية سلام هادفة مع الفلسطينيين، فقد تدخل المنطقة حقبةً غير مسبوقة من التعاون. ويمكن للمبادرات الاقتصادية الجديدة، مثل الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، والترابط في مجال الطاقة بين دول الخليج ودول البحر الأبيض المتوسط، وتنامي العلاقات مع آسيا، أن تُرسي إطارًا قائمًا بذاته للسلام. كما أن طريق الحرير بين الصين والشرق الأوسط وأوروبا يمكن أن يلعب دوراً أساسياً في مجال الطاقة والسلام الإقليميين.

ومع ذلك، إذا نُظر إلى الاتفاقيات على أنها تتجاهل العدالة أو تُفيد مصالح النخبة فقط، فقد تُفاقم الاستياء. ومن ثم فإن التحدي الذي يواجه زعماء الشرق الأوسط يتمثل في ضمان وجود إطار أخلاقي من الإدماج والمساواة إلى جانب "الخرائط الجديدة" للدبلوماسية والاقتصاد.

الخلاصة

يُمثل "الشرق الأوسط الجديد" إعادة تصور عميقة لمنطقة لطالما حاصرتها دوامات من الحرب وانعدام الثقة. خرائطه الجديدة لا تُرسم بالحدود والجيوش، بل بطرق التجارة وكابلات البيانات والجسور الدبلوماسية. سعيه نحو السلام لا ينبع من شعارات مثالية، بل من الفهم العملي بأن الرخاء والاستقرار لا ينفصلان.

لقد فتحت اتفاقيات إبراهيم، باعتبارها جوهر هذا التحول، مساراتٍ ظننتُ يومًا أنها مستحيلة. إنها ترمز إلى صحوة إقليمية وإدراك بأن التعاون، لا الصراع، هو مفتاح الترابط في القرن العالمي. ومع ذلك، تظل هذه الرؤية ناقصة دون تحقيق العدالة لجميع شعوب المنطقة، بمن فيهم الفلسطينيون والكورد، الذين لا يزال مصيرهم يُشكل الشرعية الأخلاقية للنظام الناشئ.

في نهاية المطاف، ليس "الشرق الأوسط الجديد" واقعًا ثابتًا، بل عملية ديناميكية لإعادة تعريفه. إنها منطقة تتعلم كيف توفق بين ماضيها ومستقبلها ــ كيف تحل محل خرائط الانقسام القديمة بخرائط جديدة للشراكة، وكيف تحول السلام من طموح هش إلى واقع مشترك ودائم.

في النهاية، لا يتحقق السلام من خلال الحرب، بل من خلال الحوار والمصالح والاقتصاد المتنوع.