د. سامان سوراني
أكاديمي كوردي
مستقبل عراق الدولة وعراق اللادولة
يواجه العراق منذ عام 2003 أزمة بنيوية لا يمكن اختزالها بإخفاق الحكومات المتعاقبة أو تعثر السياسات العامة، بل تتصل بطبيعة الكيان السياسي ذاته الذي لم يتشكل على أساس عقد اجتماعي وطني جامع، مؤمن بالشراکة الحقيقية والتوافق والتوازن.
فشيوع توصيف الواقع القائم بوصفه “دولة” يخفي خللاً مفاهيمیاً عميقاً ، إذ تفتقر البنية السياسية الراهنة إلى مقومات الدولة بوصفها كياناً مؤسسياً يحتكر العنف المشروع ويمارس السيادة ويدير المجال العام على أساس المواطنة المتساوية. ولهذا لا يجد الخطاب السياسي التحذيري من “انهيار الدولة” صدى واسعاً لدى المجتمع، لأن التجربة اليومية للمواطن تعكس واقعاً أقرب إلى اللادولة منه إلى الدولة الوظيفية.
وتؤكد المؤشرات الدولية الخاصة بالدول الهشة هذا التشخيص، حيث يحتل العراق موقعاً متقدماً نتيجة عجز مزمن عن أداء وظائف الدولة الأساسية، وفي مقدمتها الأمن والخدمات والشرعية السياسية وضبط القرار السيادي.
ولا تشير هذه المؤشرات إلى اختلالات إدارية عابرة، بل إلى أزمة عميقة في بنية النظام السياسي الذي نشأ بعد 2003، حين أعيد تشكيل السلطة على أسس طائفية وعرقية في ظل تدخل خارجي مباشر، ما أفرز نظاماً سياسياً يقوم على إدارة الانقسام بدل تجاوزه، ويعمل كآلية لتقاسم النفوذ لا كمؤسسة وطنية جامعة.
وقد تجسدت مظاهر اللادولة في أكثر من مستوى، أبرزها تفكك احتكار العنف المشروع، وضعف سيادة القانون، وبروز قوى موازية صادرت وظائف الدولة الأساسية.
كما ساهم نمط الصراع بين الزعامات السياسية، القائم على السيطرة على مفاصل الدولة بدل التنافس الديمقراطي، في إفراغ العملية السياسية من مضمونها وتحويلها إلى أداة لإعادة إنتاج النخب ذاتها، ما أدى إلى تشويه تجربة التحول الديمقراطي وتقويض الثقة العامة بالمؤسسات.
ومنذ عام 2003، لم تتجه الطبقة السياسية الحاکمة في بغداد نحو إصلاح هذا الخلل البنيوي، بل عملت على ترسيخه من خلال إضعاف مفهوم المواطنة والشراکة الحقيقية للمکونات لصالح خطاب الحقوق الطائفية والقومية، و تحويل مؤسسات الدولة ومواردها إلى أدوات للبقاء في السلطة، مع شرعنة الفساد بوصفه جزءاً من آلية الحكم و التفريط بمفهوم السيادة الوطنية عبر تبرير التدخلات الإقليمية تحت ذرائع حماية المكونات أو دعمها.
ويتعزز هذا الواقع بفعل تصورات سائدة لدى جزء من النخب الشیعیة الحاكمة والتي تنظر إلى الدولة العراقية بوصفها إطاراً مؤقتاً أو وظيفياً لا وطناً نهائياً. في هذا السياق، يكتسب الجدل المتصاعد حول حصر السلاح بيد الدولة أهمية تتجاوز البعد الأمني، ليشكل اختباراً حقيقياً لإمكانية الانتقال من منطق اللادولة إلى منطق الدولة.
أحد أبرز التطورات التي طرأت على هذه المسألة هي مساعي إدارة ترامب في نزع سلاح الميليشيات العراقية. حيث سعت الإدارة الأمريكية إلى ممارسة ضغوط على الحكومة العراقية للحد من تأثير الميليشيات المسلحة، مطالب بحصر السلاح بيد الدولة كشرط أساسي لتحقيق الاستقرار.
هذا الموقف يعكس تحولاً في السياسة الأمريكية نحو دعم العراق في استعادة سيادته، وقد شهدنا في السنوات الأخيرة تحولاً تدريجياً في بعض الفصائل المسلحة نحو قبول فكرة حصر السلاح بيد الدولة، رغم المعارضة المستمرة من بعض الفصائل مثل "كتائب حزب الله" و"حركة النجباء".
وفي هذا الإطار، لعب الرئيس مسعود بارزاني دوراً إيجابياً بارزاً في مساعدة العراق على استعادة سيادته الوطنية، سواء من خلال مواقفه السياسية في دعم الحكومة المركزية، أو من خلال سعيه الدائم لبناء شراكة حقيقية بين الکور وبقية المكونات العراقية.
الرئیس مسعود بارزاني كان دائماً حريصاً على دعم التعايش السلمي وتعزيز الحوار بين الأطراف المختلفة، معتقداً أن العراق الفدرالي الاتحادي هو السبيل الوحيد لضمان الاستقرار في المنطقة. وقدم نموذجاً إيجابياً للشراكة السياسية من خلال الدعوة إلى معالجة الملفات العالقة بشكل توافقي، بما في ذلك تلك المتعلقة بالموارد والنفط، والحقوق المكونية في إطار الدولة الاتحادية.
إن مستقبل العراق يتوقف على قدرة الانتقال من دولة الشكل إلى دولة الوظيفة، ومن منطق الجماعة إلى منطق المؤسسة. فالدولة ليست خطاباً تعبوياً ولا أداة للصراع السياسي، بل إطار سيادي جامع لا يمكن بناؤه إلا بإعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع على أسس قانونية ومؤسسية واضحة. ومن دون هذا التحول، سيبقى العراق يدور في حلقة إعادة إنتاج اللادولة، مهما تعددت الشعارات أو تبدلت الوجوه.