اللجنة الاقتصادية في عفرين: إجراءات بيروقراطية أم أداة لإضفاء الشرعية على النهب؟

أربيل (كوردستان 24)- شهدت مدينة عفرين الواقعة في ريف حلب الغربي تحولات أمنية وعسكرية كبيرة منذ احتلالها من قبل فصائل "الجيش الوطني" المدعوم من أنقرة، والتي انضمت لاحقاً بشكل رسمي إلى الجيش السوري التابع للحكومة الانتقالية.
رافق هذا الاحتلال موجة واسعة من التهجير القسري لآلاف السكان الأصليين، وسقوط ضحايا مدنيين، إضافة إلى انتهاكات جسيمة طالت الحقوق الأساسية للسكان، من قتل واعتقال تعسفي وتعذيب ومصادرة للممتلكات، في ظل سياسات ممنهجة أحدثت تغييراً ديموغرافياً عميقاً في المنطقة.

كان سكان عفرين يأملون أن يؤدي سقوط نظام بشار الأسد إلى فتح صفحة جديدة من الاستقرار ورفع المظالم عنهم، غير أن الواقع الذي تلا ذلك جاء على النقيض تماماً، حيث تداخلت السياسات المحلية مع وجود الفصائل المسلحة وتعقيدات البيروقراطية الإدارية، لتشكل معاً شبكة من القيود والابتزازات اليومية التي تثقل كاهل الأهالي، حتى في أبسط تفاصيل حياتهم، بما في ذلك محاولاتهم لجني محاصيلهم الزراعية.
في قلب هذا المشهد تبرز اللجنة الاقتصادية في عفرين، وهي هيئة إدارية محلية تشكّلت بعد سقوط نظام الأسد واستيلاء جهاز الأمن العام التابع للحكومة الانتقالية على السلطة من الفصائل التي سيطرت على المدينة عام 2018. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت اللجنة محور جدل واسع بين الأهالي والمنظمات الحقوقية، إذ تقدم نفسها كجهة مسؤولة عن تنظيم الشؤون الاقتصادية والإدارية و تتولى دراسة طلبات استعادة المنازل والأراضي التي تمت السيطرة عليها من قبل مستوطنين ، بينما يتهمها السكان بأنها أداة للسيطرة والاستحواذ على ممتلكات المهجرين الكورد.
وفي مسعى رسمي لاستعادة الأراضي والمنازل، أصدرت إدارة منطقة عفرين بياناً حددت فيه شروطاً يجب على النازحين الكورد العائدين إلى عفرين تحقيقها لاستعادة أملاكهم، وجاء في نص البيان:
“حرصاً على المصلحة العامة وضماناً لحقوق الإخوة المواطنين، يتم تسليم العقارات فوراً عن طريق المكتب الاقتصادي العام في عفرين أو المكاتب الفرعية في النواحي،
وفق الشروط التالية:
1- أن يكون بيان القيد العقاري بتاريخ حديث لا يتجاوز ثلاثة أشهر.
2- صورة عن الهوية الشخصية للمواطن المطالب بالعقار.
3- في حال وفاة المالك، تُبرز شهادة وفاة وبيان عائلي حديث، مع تفويض مصدق من مختار القرية وبصمة شاهدين، أو وكالة رسمية سارية من جميع الورثة.”
ورغم أن الشروط تبدو بسيطة على الورق، فإن تطبيقها على أرض الواقع يروي قصة مختلفة. إذ يتهم كثيرون اللجنة بأنها تُستخدم كغطاء لعمليات استيلاء على ممتلكات المهجرين الكورد الذين نزحوا بعد احتلال عفرين عام 2018، من خلال فرض إجراءات بيروقراطية معقدة واشتراط وثائق رسمية يصعب الحصول عليها بعد سنوات النزوح. ويؤكد ناشطون أن هذه الإجراءات تُستعمل أحياناً كوسيلة ضغط أو تقييد على الأهالي الأصليين، إذ يُطلب منهم إثبات ملكيتهم الرسمية للأراضي، وإن عجزوا عن ذلك تُصادر نصف محاصيلهم لصالح اللجنة.

وأكدت مصادر خاصة لكوردستان24 أن هذه السياسة معمول بها فعلاً، إذ ظهر الصحفي باسم صالح الفارس المعروف بلقبه "أبو شام" في تسجيل مصوّر يقول فيه:
“طبعاً ليس كما يُتداول بأن اللجنة الاقتصادية تأخذ نصف المحصول، هذا فقط للوكالات غير الرسمية. أي شخص يُحضر وكالة رسمية يُسلَّم محصوله بالكامل. لذلك، عليكم تجهيز أوراقكم الرسمية.” أي يعني أي شخص لم يستطع أن يقدم أوراق رسمية سيتم أخذ نصف أرضه, وبحسب مصادر كوردستان24 أكثرية الاراضي في عفرين هي أراضي موروثة, و لم تسجل بأسماء الموروث اليهم بسبب الحرب التي حصلت في سوريا.
من جانبها، تبرر الإدارة المحلية أن اللجنة تهدف إلى “تنظيم الاقتصاد وضمان الشفافية ومنع النزاعات”، لكن المنظمات الحقوقية ترى أن دورها تجاوز الإطار الإداري لتصبح أداة لتثبيت واقع جديد في عفرين، عبر تغيير أنماط الملكية وإعادة توزيع الموارد الزراعية على حساب السكان الأصليين.
شهادات من الميدان: روايات المعاناة اليومية
في حديث مع كوردستان24، قال أحمد حسن، مسؤول المجلس الوطني الكوردي في عفرين:
“الوضع في عفرين ما زال تحت سيطرة بقايا الفصائل. اللجنة الاقتصادية خاضعة لنفوذ تلك الفصائل، وتفرض على السكان ضرائب وإتاوات وتأخذ نصف موسم الزيتون. كما تطلب أوراقاً تعجيزية لإثبات الملكية، والناس يعانون من التهديدات خاصة مع اقتراب موسم الحصاد.”
وأضاف: الوضع في عفرين أصعب بكثير من مناطق أخرى مثل أعزاز، فهناك لا توجد لجنة اقتصادية، بينما في عفرين يستخدمون هذه اللجنة كأداة للضغط والابتزاز، ما يدفع البعض للعجز عن جني محاصيلهم، في حين تزداد السرقات يومياً.”

وقال عضو مجلس الشعب السوري الكوردي محمد سيدو على صفحته في فيسبوك:
"ما يحدث في عفرين مؤسف ومؤلم وغير مقبول تحت أي اسم كان، حيث يتم حرمان المزارعين من حقوقهم وتهديد أرزاقهم بحجج واهية لا علاقة لها بالعدل."
و أكمل النائب قائلا: "هذا الظلم لا يمكن السكوت عليه، فغياب الرقابة والمحاسبة يفتح الباب أمام استغلال المزارعين ونهب حقوقهم. العدالة الحقيقية هي في حماية حقوق الناس وأرزاقهم وممتلكاتهم"
و أكد سيدو: "لن نسمح بسرقة تعب الناس، ولن نرضى بأن يمر الظلم دون محاسبة ويجب تعويض المتضررين. الجهود المبذولة مشكورة ولكنها غير كافية، وينبغي تضافر جهود الدولة والخيرين في الحفاظ على السلم الأهلي وحماية الممتلكات."
كما أصدرت جبهة كوردستان سوريا بياناً أكدت فيه أن المكاتب الاقتصادية في عفرين “تحولت إلى سلطة بديلة عن القضاء”، إذ قالت:
“الأهالي الذين عادوا ودفعوا الضرائب لاستعادة أراضيهم حُرموا هذا العام من حق جني المحصول، وأصبح ذلك مشروطاً بموافقة المكاتب الاقتصادية حصراً.”
وبحسب المتابعة والتحقق حصلت كوردستان 24 الإنجليزية على تسجيلات صوتية يقول فيها مختار قرية داركير التابعة لناحية موباتو في عفرين:
“يا شباب، أي أحد أتى بعد السقوط و أعطيناه ورقة موافقة يجب أن يعيدها، صدر أمر معاكس، لا تحصدوا أرضكم. أرجعوا الأوراق لأنهم سيأتون لأخذها" و تابع قائلا "أنا أقصد فقط الناس الذين عادوا بعد السقوط، أما القدماء فبإمكانهم الحصاد.”
هذه التسجيلات تؤكد أن حتى من يمتلك أوراقاً رسمية لا يزال يُمنع من جني محصوله، مما يعزز ما أكده أحد مصادر كوردستان24 بأن الفصائل تمارس ضغوطاً مباشرة على المخاتير لمنع الأهالي من الحصاد، في مشهد يعكس فوضى السلطة وتداخل النفوذ بين الأجهزة العسكرية والإدارية في عفرين، حيث تحولت اللجنة الاقتصادية إلى أداةٍ لإضفاء شرعية شكلية على عمليات النهب المستمرة تحت غطاء القانون
أما من الناحية القانونية، أشار بيان جبهة كوردستان على أن القانون المدني السوري رقم 84 لعام 1949 إلى أن الحيازة تعد قرينة على الملكية ما لم يثبت العكس قضائياً، ولا يحق لأي جهة تنفيذية أو أمنية منع شخص من جني محصوله إلا بوجود نزاع قضائي رسمي. كما تنص المادة 834 على أن أحد الورثة يملك حق إدارة الأرض وجني ثمارها لصالح بقية الورثة دون الحاجة إلى موافقتهم جميعاً.
تحقيقات ميدانية: من القرى إلى المكاتب
في مقابلة مع مواطن من عفرين فضل عدم الكشف عن هويته، قال لكوردستان24:
“نعيش حالة من الفوضى. السرقة أصبحت يومية، واللجنة الاقتصادية التي يُفترض أن تحمي الناس أصبحت أداة بأيدي الفصائل التي تسلقت إليها. وجودها أصلاً غير قانوني، فالقضاء هو من يجب أن يحل هذه القضايا.”
الناشط الإعلامي مصطفى شيخو أكد أيضاً أن اللجنة الاقتصادية “توجد فقط في عفرين دون غيرها من المناطق السورية، فحتى في أعزاز لا يوجد مثل هذه اللجنة”، وهو ما أكده مراسلو كوردستان24 في سوريا.
المعاناة القانونية: متاهة الوثائق والروتين
وفي شهادة أخرى، قال أحد المواطنين لكوردستان24 الذي فضل عدم ذكر اسمه خوفا على حياته:
“ذهبت للجنة الاقتصادية لأستعيد أرضي، فوجدت أن المسؤول هناك قيادي سابق في الفصائل التي احتلت عفرين عام 2018. وعدني بالسماح بالعمل في أرضي، لكن بعد أن أنفقت المال وجهزت الأرض، عادوا ليمنعوني من الحصاد بحجة عدم وجود وكالة من والدي المريض في حلب. وبعد أن جلبت الوكالة الرسمية، بدأوا بطلب أوراق جديدة، وحتى الآن لم أتلقَ أي اتصال يسمح لي بالحصاد.”

مصادر داخلية: كشف المستور
وفي مقابلة حصرية مع مصدر قريب من اللجنة الاقتصادية، قال لكوردستان24:
“اللجنة تائهة بين ضغط الشعب وضغط الفصائل وتعليمات الحكومة. حتى إذا منحت اللجنة موافقة للمزارع ليحصد أرضه، عليه أن يحصل أيضاً على موافقة المختار، والفصائل تضغط على المخاتير لعدم منح هذه الموافقات.”
وكشف المصدر أن اللجنة الاقتصادية “ تسمح للمستوطنين الذين حصلوا على أراضٍ من الفصائل بجني المحصول، بينما تتأخر معاملات الأهالي الأصليين عمداً.”
و اختتمت جبهة كوردستان بيانها بوضع المسؤولية على الحكومة السورية الانتقالية و قالت: "نحمّل الحكومة السورية المؤقتة كامل المسؤولية عن هذه الانتهاكات لصمتها وعدم محاسبتها الجهات المسؤولة، مما يجعلها شريكة في ما يحدث. ونطالب الحكومة بتطبيق سيادة القانون وتمكين الأهالي من استعادة حقوقهم عبر القضاء، لا عبر مكاتب اقتصادية غير شرعية، ومحاسبة كل من يرفض تسليم الأملاك أو يستغلها بذرائع واهية، وإعادة ترميم السجل العقاري المفقود لضمان حقوق المواطنين.
لذلك، تطالب جبهة كوردستان سوريا بإلغاء جميع المكاتب الاقتصادية في منطقة عفرين فورا، وإلغاء قراراتها غير الشرعية، وإعادة الصلاحيات القانونية للمحاكم، ومحاسبة المسؤولين عن مصادرة محاصيل الأهالي ومنعهم من جني أرزاقهم.
------------------------------------------------------
إعداد: آهورا قاضي- محرر في قسم اللغة الإنكليزية بموقع كوردستان24 الإخباري