من العقوبة إلى الوقاية: المخدرات في العراق وإقليم كوردستان في ضوء القانون والمجتمع

من العقوبة إلى الوقاية: المخدرات في العراق وإقليم كوردستان في ضوء القانون والمجتمع
من العقوبة إلى الوقاية: المخدرات في العراق وإقليم كوردستان في ضوء القانون والمجتمع

تشكِّل ظاهرة تعاطي وترويج المخدرات تحدياً مركباً يهدد البنى الصحية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات المعاصرة. وفي سياق العراق وإقليم كوردستان، تبرز هذه القضية كأولوية وطنية ملحّة، لا سيما مع تزايد مؤشرات انتشارها بين فئة الشباب التي تمثل حجر الزاوية في مستقبل البلاد. تستدعي المواجهة الفاعلة تحولاً جوهرياً من النموذج العقابي التقليدي إلى نموذجٍ استباقي متكامل، يجمع بين الوقاية العلمية، والعلاج التكاملي، وإعادة الدمج المجتمعي، تماشياً مع الرؤى الدولية التي تؤكد على معاملة المتعاطي كـ"حالة إنسانية-صحية" لا كـ"قضية جنائية صرفة".  

 

 أولاً: الإطار القانوني: تحوُّل نوعي وإشكاليات التطبيق:

شكَّلت التشريعات الحديثة في العراق (القانون رقم 50 لسنة 2017) وإقليم كوردستان (القانون رقم 1 لسنة 2020) نقلةً نوعية في السياسات الوطنية، تمثلت في:  

- التفريق الجوهري بين المتعاطي (كضحية تستحق الرعاية) والمروج (كمجرم يُحاكم).  

- إحلال العلاج محل العقوبة السالبة للحرية للمتعاطين لأول مرة.

- استحداث مراكز توعيوية وعلاجية.

- انشاء آليات للمراقبة والمتابعة على مستويات عالية وحساسة.  

- تحديد آليات تمويل مبتكرة لدعم برامج التأهيل الصحي والنفسي.  

 

غير أن التطبيق العملي يكشف إشكاليات عميقة:  

1. القصور البنيوي: محدودية مراكز العلاج المؤهلة طبياً ونفسياً.  

2. العجز المهني: نقص الكوادر المتخصصة في التعامل مع اضطرابات الإدمان.  

3. المعوقات المجتمعية: استمرار الوصم الاجتماعي الذي يحول دون الإبلاغ المبكر.  

4.     الاختلال المؤسسي: ضعف التنسيق وغياب التكاتف بين الجهات المعنية، ولا سيّما بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، مما يؤدي إلى تشتت الجهود وازدواجية السياسات في معالجة الظاهرة.

وفي اطار ذلك تبقى "القوانين المتقدمة حبراً على ورق دون جسر الهوّة بين التشريع والتطبيق".  

 

ثانياً: الوقاية: الاستثمار الاستباقي في الحصانة المجتمعية:

 1. التثقيف المؤسسي الشامل :

- دمج التوعية الوقائية في المناهج التعليمية: بناء مناهج تركز على:  

  - تنمية المهارات الحياتية (كالرفض الإيجابي، إدارة الضغوط).  

  - تعزيز الوعي بمخاطر المواد المخدرة علمياً ونفسياً.  

- تفعيل دور المؤسسات الدينية والثقافية: إنتاج خطاب توعوي متوازن يجمع بين البعد الديني والأسس العلمية.  

 

2. الإعلام: هندسة الوعي المجتمعي:  

- حملات إعلامية نوعية؛ توظيف وسائط متعددة (دراما اجتماعية، منصات رقمية) لتقديم:  

  - نماذج ناجحة للتعافي وإعادة الدمج.  

  - محتوى تفاعلي يستهدف الشباب بلغة معاصرة.  

- شراكات مع المؤثرين المجتمعيين: تعزيز المصداقية عبر شخصيات محورية في الفن والرياضة.  

 

 3. تمكين الأسرة والنسيج المجتمعي :

- برامج الدعم الأسري: إنشاء وحدات استشارية مجانية للتدريب على:  

- الكشف المبكر عن مؤشرات التعاطي.  

- آليات التعامل الإيجابي مع الحالات.  

- المراصد المجتمعية: إنشاء شبكة مراكز دعم نفسي-اجتماعي داخل الأحياء السكنية والمؤسسات التعليمية.  

 

ثالثاً: الأبعاد الاستراتيجية للوقاية: اقتصاديات الحماية الاجتماعية :

تمثل برامج الوقاية استثماراً ذكياً يحقق عوائد متعددة الأبعاد، تجعل منها خياراً استراتيجياً يتجاوز الجدوى الإنسانية إلى الحساب الاقتصادي والاجتماعي الدقيق. 

 

 .1ففي البُعد الاقتصادي، تُحدث الوقاية تحولاً جوهرياً في توزيع الموارد العامة:  

- ترشيد الإنفاق الحكومي: إذ تُقلل كلفة الرعاية الطارئة للمتعاطين، وتخفض الأعباء المالية المباشرة لإنشاء السجون وتشغيلها، مما يُحرر موازنات يمكن توجيهها لتمويل مشاريع تنموية مستدامة.  

- حماية رأس المال البشري: عبر الحفاظ على إنتاجية الشباب - العمود الفقري للاقتصاد الوطني - ومنع فقدان الطاقات العاملة بسبب الإعاقة الصحية أو الإقصاء الاجتماعي الناتج عن الإدمان.  

- استثمار طويل المدى: فكل دينار يُنفق على التوعية المدرسية أو التدخل الأسري المبكر، يُجنب المجتمع إنفاق عشرات الدنانير لاحقاً على العلاج وإعادة التأهيل.  

 

 .2أما على الصعيد الاجتماعي، فتتجلى آثار الوقاية في:  

- تعزيز التماسك الأسري: كحائط صد ضد التفكك العائلي الذي ينتج عن تبعات التعاطي، حيث تُظهر الدراسات أن البيئات الأسرية المستقرة تقلل معدلات الانزلاق إلى الإدمان بنسبة تفوق 70%.  

- احتواء الظواهر الهامشية: مثل الحد من جنوح الأحداث والعنف المنزلي المرتبطين بتعاطي المخدرات، مما يُسهم في بناء مجتمعات محلية أكثر أماناً.  

- خلق نسيج مجتمعي مرن: عبر تمكين الأحياء والمؤسسات التعليمية من اكتشاف المؤشرات المبكرة للتعاطي، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي قبل تفاقم الأزمة.  

 وعلى ذلك فان هذه التدخلات المتكاملة تحوّل الوقاية من "برنامج هامشي" إلى "سياسة تحويلية" تُعيد هندسة العلاقة بين الدولة والمجتمع في مواجهة المخدرات.  

 

الخاتمة: نحو نموذج متكامل للمواجهة:

يمثل التطور التشريعي خطوةً أساسية، لكن ضمان فعاليته يتطلب:  

1. تعزيز البنية التحتية:  

   - إنشاء شبكة وطنية لمراكز العلاج والتأهيل وفق معايير الجودة العالمية.  

   - تطوير برامج إعداد الكوادر المتخصصة في الصحة النفسية.  

 

2. السياسات الوقائية المتكاملة:  

   - إدماج التثقيف الوقائي في المنظومة التعليمية بوصفه مكوناً أساسياً.  

   - تفعيل الشراكة بين القطاعات (الصحة، التربية، الأوقاف، الشباب).  

 

3. التمكين المجتمعي:  

   - إطلاق مبادرات لمكافحة الوصم الاجتماعي عبر حملات إعلامية موجهة.  

   - تصميم حوافز اقتصادية لتشجيع إعادة دمج المتعافين في سوق العمل.  

وتأسيسا على كل ما تقدم، فان التحول من النموذج العقابي إلى النموذج الوقائي ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة إستراتيجية لبناء مجتمعات منيعة.