د. سامان شالي
محلل سياسي واقتصادي
الأجندة الوطنية لوحدة العراق بعد الانتخابات العراقية
انتهت انتخابات البرلمان العراقي؛ وحان الوقت لتشكيل حكومة وطنية جديدة قادرة على العمل على أجندة وطنية تخدم وحدة العراق، كما هو منصوص عليه في الدستور الاتحادي العراقي، والذي يضمن حماية حقوق جميع أبناء الشعب العراقي بالتساوى.
يقف العراق عند منعطف حرج في تاريخه الحديث عقب غزو عام 2003. فبعد عقود من الحروب والحكم الاستبدادي والتدخل الأجنبي والصراع الداخلي، يواجه البلد تحديات عميقة - التشرذم السياسي وعدم الاستقرار الأمني والفساد والاعتماد الاقتصادي على النفط وضعف ثقة الجمهور في المؤسسات الحكومية وغياب القضاء المستقل. ومع ذلك، يمتلك العراق أيضًا أصولًا ملحوظة: غالبية سكانه من الشباب، وموارد طبيعية غنية، وموقع جيوسياسي استراتيجي، وتراث ثقافي وحضاري عميق. إن صياغة أجندة وطنية توحد المجتمعات المتنوعة وتضع مسارًا واضحًا نحو الاستقرار والازدهار أمر ضروري لمستقبل العراق ووحدته. تمثل الأجندة الوطنية العراقية لجمع البلاد معًا دعوة ملحة لصياغة رؤية متماسكة للوحدة ترتكز على الشمول والمساواة والسيادة. تجادل هذه المقالة بأن طريق العراق نحو التماسك الوطني يتطلب شمولًا سياسيًا شاملاً وإصلاحًا اقتصاديًا عادلًا ومصالحة ثقافية ودبلوماسية إقليمية متوازنة. تشكل هذه الركائز مجتمعة الأساس لعراق مستقر وموحد.
الشمول السياسي والإصلاح المؤسسي
يُعدّ الشمول السياسي جوهر الوحدة الوطنية العراقية. فالنظام السياسي لما بعد عام 2003، القائم على المحاصصة العرقية والطائفية، قد رسّخ الانقسام بدلاً من تعزيز الهوية الجماعية. ولجمع شمل العراق، يجب أن يهدف الإصلاح إلى تجاوز تقاسم السلطة الطائفي نحو حوكمة قائمة على الجدارة وتمثيل وطني. وتشمل الجهود إصلاحات لتعزيز مؤسسات الدولة، وتعزيز الشفافية، والمساءلة. ومع ذلك، لا يزال الفساد المستشري ونفوذ الميليشيات يُقوّض الشرعية. وينبغي أن تُركّز أجندة وطنية مُصلحة على لامركزية السلطة الإدارية لتمكين الحكومات المحلية والحكومات الإقليمية، مع الحفاظ على دولة اتحادية قوية وشفافة. ومن شأن هذه الإجراءات أن تُساعد في استعادة ثقة الجمهور والحد من المحسوبية بين مختلف الجماعات العرقية والدينية في العراق.
التنويع الاقتصادي، والتنمية المستدامة، والعدالة
يجب على العراق أن يتخلص من اعتماده على النفط، الذي يُغذي الفساد والتقلبات الاقتصادية.
1. الإصلاح الاقتصادي ومكافحة الفساد:
• الأولوية الأولى: إطلاق حملة فعّالة ومستقلة لمكافحة الفساد تستهدف كبار المسؤولين والرشوة الممنهجة. تطبيق الحوكمة الإلكترونية للحد من فرص الرشوة و زيادة الشفافية.
• تنويع الاقتصاد من خلال الاستثمار في الزراعة، والصناعة، والصحة، والتعليم، والسياحة (الدينية والأثرية)، والطاقة المتجددة.
• إصلاح القطاع العام، الذي يعاني من التضخم وعدم الكفاءة، وتشجيع القطاع الخاص النابض بالحياة كمحرك رئيسي لخلق فرص العمل والحد من البطالة.
2. إدارة الموارد والبنية التحتية:
• إقرار قانون وطني للنفط والغاز يضمن توزيعًا شفافًا وعادلًا للإيرادات على جميع المناطق المحافظات والحكومات الإقليمية.
• إطلاق خطة للبنية التحتية الوطنية: إعادة بناء وتحديث الشبكة الكهربائية، ومرافق معالجة المياه، وشبكات النقل، والاتصالات.
3. التنمية البشرية والرعاية الاجتماعية:
• الاستثمار بكثافة في التعليم والتعليم العالي: إصلاح المناهج الدراسية لتعزيز التفكير النقدي والهوية الوطنية، لا الطائفية. بناء مدارس جديدة وتدريب المعلمين. مراجعة جودة الجامعات وإغلاق الجامعات التي لا ترقى إلى المعايير الدولية لرفع مستوى الخريجين لخدمة مستقبل العراق.
• إعادة إحياء نظام الرعاية الصحية، الذي دمرته سنوات الحرب والعقوبات، لتوفير رعاية صحية أساسية عالية الجودة لجميع المواطنين.
• إنشاء شبكة أمان اجتماعي لحماية الفئات الأكثر ضعفًا من الصدمات الاقتصادية.
4. العدالة للجميع:
ضرورة إصلاح النظام القضائي لخدمة الشعب العراقي دون أي تدخل من أي طرف سياسي.
• يجب إصلاح المحكمة الاتحادية وفقًا للمادة 92.
• تشريع المادة 65: يُنشأ مجلس تشريعي يُسمى "مجلس الاتحاد"، ويضم ممثلين عن الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم.
يجب إيلاء اهتمام خاص لإعادة الإعمار في المناطق المتأثرة بالصراعات خلال النظام السابق حتى اليوم، خاصة في المحافظات المحررة من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). لا تزال العديد من هذه المناطق، وخاصةً ذات الأغلبية السنية، مدمرة ومهمشة من خطط التعافي الوطنية. إن إعادة الإعمار الشاملة التي تُعطي الأولوية للإسكان والرعاية الصحية والتعليم من شأنها أن تُسهم في إعادة دمج النازحين واستعادة الثقة بالحكومة المركزية.
إن التوزيع العادل للثروة الوطنية ليس مجرد هدف اقتصادي، بل هو ضرورة أخلاقية وسياسية للمصالحة الوطنية. علاوة على ذلك، يُعدّ التوزيع الشفاف للموارد بين الحكومة الفيدرالية وحكومة إقليم كردستان أمرًا أساسيًا لتخفيف التوترات بشأن عائدات النفط والاستقلال المالي. وبالتالي، يُمكن لإطار اقتصادي عادل وشفاف أن يُشكّل أساسًا للتضامن الوطني.
المصالحة الثقافية والهوية الوطنية
بعيدًا عن السياسة والاقتصاد، تعتمد وحدة العراق على تعزيز شعور مشترك بالهوية الوطنية يتجاوز الانقسامات الطائفية والعرقية والقبلية. يضم العراق مزيجًا غنيًا من المجتمعات، بما في ذلك العرب والكورد والتركمان والآشوريين واليزيديين وغيرهم. إلا أن عقودًا من الصراع والدكتاتورية والتدخل الأجنبي قد مزّقت التماسك الاجتماعي. وقد خلّفت الفظائع التي ارتُكبت خلال العنف الطائفي بين عامي 2006 و2008، وفي ظل حكم داعش بين عامي 2014 و2017، ندوبًا نفسية عميقة لا يمكن شفاؤها من خلال الإصلاحات السياسية وحدها.
وتتطلب المصالحة الثقافية الاعتراف بمظالم الماضي من خلال آليات العدالة الانتقالية التي تُركّز على الحقيقة والمساءلة والتعويض. ويمكن أن يُعزز إنشاء لجان الحقيقة وتخليد ذكرى ضحايا جرائم الحرب التعافي الجماعي والاعتراف المتبادل بين المجتمعات العراقية. علاوة على ذلك، يلعب إصلاح التعليم دورًا محوريًا في تشكيل وعي وطني قائم على المواطنة المشتركة بدلًا من الخطابات الطائفية.
ينبغي أن تُبرز المناهج الوطنية التنوع التاريخي للعراق ومساهمات جميع الجماعات العرقية والدينية في تراث الأمة. كما برزت منظمات المجتمع المدني والحركات الشبابية ووسائل الإعلام المستقلة كعوامل رئيسية للمصالحة. وقد جسدت احتجاجات تشرين 2019-2020 حركةً قويةً عابرةً للطوائف تطالب بالإصلاح والكرامة والوحدة الوطنية. وتُظهر هذه الجهود الشعبية أن العديد من العراقيين، وخاصةً الأجيال الشابة، يتصورون عراقًا لا يُعرّف بالطائفة بل بالمواطنة. إن إنشاء حركات بناءة لمساعدة الحكومة على معالجة أخطائها من خلال توفير مشاريع تخدم الشعب أمرٌ بالغ الأهمية لبناء حكومة فاعلة تُمثل الشعب. ويمكن لدعم هذه الحركات من خلال الحماية القانونية والتربية المدنية أن يُعزز الأسس الاجتماعية للتماسك الوطني.
العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان
يجب بناء هذه العلاقة على أساس الدستور العراقي، لا على أسس طائفية أو عرقية أو قبلية. فهم الفيدرالية هو مفتاح لمستقبل العراق، وليس حكومة مركزية دمرت العراق في الماضي. إن حصار الاقتصاد، وقطع رواتب موظفي الحكومة والميزانية، وتقليص سلطة حكومة إقليم كردستان، يُفضي إلى انقسام أكثر منه إلى وحدة.
الدبلوماسية الإقليمية والسيادة
ترتبط وحدة العراق ارتباطًا وثيقًا ببيئته الإقليمية والدولية. تاريخيًا، كان العراق مسرحًا للتنافس الجيوسياسي بين القوى الفاعلة، لا سيما إيران والولايات المتحدة وتركيا والدول العربية المجاورة. وكثيرًا ما تُرجمت هذه التنافسات إلى انقسامات داخلية، حيث تتحالف الفصائل المحلية مع رعاة خارجيين للحصول على دعم سياسي أو عسكري. لذا، يجب على أي أجندة وطنية ناجحة أن تؤكد سيادة العراق وأن تتبع سياسة خارجية متوازنة تُعلي من شأن المصالح الوطنية على حساب المصالح الخارجية.
يُعد استقرار العراق أمرًا بالغ الأهمية لاستقرار الشرق الأوسط، لذا يجب أن تكون سياسته الخارجية متوازنة وحازمة.
1. سياسة خارجية متوازنة:
• اتباع سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز. ينبغي أن يكون العراق جسرًا للحوار الإقليمي، لا ساحة صراع للصراعات بالوكالة.
• بناء علاقات اقتصادية ودبلوماسية مع جميع الدول المجاورة (إيران، دول الخليج العربي، سوريا، تركيا، الأردن، الكويت) والقوى الدولية (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الصين، روسيا) على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل.
2. التكامل الاقتصادي:
• جعل العراق مركزًا إقليميًا للطاقة والنقل. تعزيز المشاريع التي تربط موانئ الخليج بالأسواق التركية والأوروبية عبر الطرق والسكك الحديدية العراقية.
• جذب الاستثمارات الأجنبية إلى قطاعات رئيسية مثل البناء والزراعة والسياحة والصناعة و التعليم والتكنولوجيا.
في نهاية المطاف، يجب أن تعزز الدبلوماسية الإقليمية الوحدة الداخلية من خلال ضمان أن تخدم علاقات العراق الخارجية رفاهية شعبه وسيادته. إن سياسة خارجية متماسكة، متجذرة في التوافق الوطني، يمكن أن تعزز الشرعية الداخلية للدولة العراقية وتحميها من الآثار المزعزعة للاستقرار والتنافسات الجماعية.
ضمان الأمن والاستقرار
بدون الأمن، لا يمكن تحقيق أي تقدم آخر. الهدف هو أن تحتكر الدولة الاستخدام المشروع للقوة.
1. إصلاح قطاع الأمن:
• نزع سلاح الميليشيات من خلال العمل على دمج أو نزع سلاح الجماعات المسلحة غير الحكومية، وتعزيز احتكار الدولة للقوة.
• توحيد جميع القوات المسلحة تحت القيادة والسيطرة الحصرية للدولة العراقية، من خلال وزارتي الدفاع والداخلية.
• إضفاء الطابع المهني على الجيش والشرطة من خلال الترقيات القائمة على الجدارة، والتدريب المكثف، وتحسين اللوجستيات والرواتب.
• مكافحة الفساد داخل الأجهزة الأمنية لإعادة بناء ثقة الجمهور.
2. مكافحة الإرهاب وأمن الحدود:
• الحفاظ على القدرات الاستخباراتية وتعزيزها لمنع عودة ظهور داعش والجماعات المتطرفة الأخرى.
• تأمين حدود العراق من خلال التكنولوجيا والدوريات والتعاون الإقليمي لمنع تدفق المسلحين والأسلحة والسلع غير المشروعة.كما نعمل على تعزيز الأمن لحماية حدود الدول المجاورة لنا.
• معالجة الأسباب الجذرية للتطرف بتفكيك شبكاته الأيديولوجية والمالية.
3. الشرطة المجتمعية والتماسك الاجتماعي:
• دمج نماذج الشرطة المجتمعية لبناء الثقة بين قوات الأمن والسكان المحليين.
• إطلاق برامج تجمع الشباب من مختلف المجتمعات المحلية في الخدمة الوطنية والرياضة والتعليم لكسر الحواجز الطائفية.
• تعزيز نظام العدالة من خلال إصلاح وتقوية القضاء لضمان عدالة مستقلة وعادلة ومتاحة للجميع.
في الختام
يُعدّ وضع أجندة وطنية لوحدة العراق ضرورةً مُلحّةً ومسعىً طويل الأمد. فهو يتطلب إرادةً سياسيةً قويةً، ومشاركةً شاملةً، وإعادة تصوّر الدولة العراقية كضامنٍ للحقوق والخدمات والوحدة، لا ساحةً لمصالحٍ متنافسةٍ من خلال تطبيق الدستور العراقي. ويتطلب تحقيق هذه الوحدة تقدّمًا متزامنًا على أربع جبهاتٍ مترابطة: الشمول السياسي والإصلاح المؤسسي، وإعادة بناء الاقتصاد العادل، والمصالحة الثقافية، والدبلوماسية الإقليمية السيادية. إنّ التحدي هائل، لكنّ الفرصة هائلةٌ بنفس القدر: بناء دولةٍ تعكس تطلعات شعبها وتستعيد دورها كمركزٍ حيويٍّ في الشرق الأوسط، بعيدًا عن نفوذ الدولة الإقليمية.
في نهاية المطاف، فإنّ مهمة بناء الدولة في العراق ليست مجرد مشروعٍ حكوميٍّ، بل مسعىً جماعيًّا يتطلّب مشاركةً من جميع شرائح المجتمع. إنّ مستقبل العراق يعتمد على تحويل تعدديته من مصدرٍ للانقسام إلى أساسٍ للقوة. من خلال الالتزام المستمر بالعدالة والمساواة والحوار، يمكن للعراق أن يتجاوز إرث الصراع نحو مستقبلٍ تسوده الوحدة والهدف المشترك.