رحلة "الكوچر" الشاقة إلى المراعي الصيفية.. كفاح من أجل لقمة العيش في قلب الجبال

أربيل (كوردستان24)- في جبال هكاري الشاهقة والوعرة بكوردستان الشمالية(تركيا)، تبدأ حكاية الكفاح من أجل الحياة من جديد كل ربيع. يبدأ الرُحّل في المنطقة، المعروفون باسم "الكوچر"، رحلتهم السنوية المليئة بالمشقة والصعاب نحو المراعي الصيفية، وذلك من أجل تأمين معيشتهم. 
هذه الرحلة التي تتم بالشاحنات على طرق جبلية ضيقة وخطرة، تسلط الضوء على قصة كد وتعب نساء ورجال هؤلاء الرُحّل.


رحلة محفوفة بالمخاطر والأغاني
ينطلق عشرات النساء والأطفال والرجال في رحلتهم التي تستمر لساعات على متن الشاحنات. الطرق الجبلية المؤدية إلى المراعي ضيقة وخطيرة للغاية، لكن الرُحّل مضطرون لتحمل هذه الصعوبات من أجل كسب رزقهم. 
أثناء الرحلة، تقوم نساء الكوچر، اللواتي يُعتبرن البطلات الرئيسيات في هذه الحياة القاسية، بترديد أغانيهن المحلية، ليُنسين أنفسهن عناء التعب من جهة، ويُحيين ثقافتهن الغنية من جهة أخرى.
تتحدث إحدى أمهات الكوچر عن حياتها الصعبة قائلة: "هذا هو عملنا وهذه هي حياتنا. نحن مجبرون على المجيء إلى هذه المراعي كل عام من أجل تربية مواشينا وتأمين قوت عائلاتنا. طرقنا خطيرة جداً، لكننا اعتدنا على ذلك".


الحياة في المراعي
بعد رحلة طويلة ومُرهقة، يصل الرُحّل إلى المراعي المرتفعة والباردة. هنا، سيمضون عدة أشهر من حياتهم تحت الخيام، ويرعون مواشيهم. 
هذه الحياة البعيدة عن التكنولوجيا والحياة المدنية، رغم كل صعوباتها، تعد المصدر الرئيسي لاقتصادهم. فالحليب والجبن والمنتجات الأخرى التي يحصلون عليها من مواشيهم، تشكل مصدر رزقهم لمدة عام كامل.
بعد رحلة شاقة محفوفة بالمخاطر، يصل الرُحّل أخيرًا إلى وجهتهم المنشودة. هنا "وارێ مێرگێ"، مرعى الأجداد الذي يقع شامخًا بين جبال كَلا وسهل رَشْك. 
هذا ليس مجرد مكان، بل هو وطن مصغر تتجسد فيه حكايات الصمود والارتباط بالأرض، وهو ملاذ رعاة قرى سَرْپَل، ئالَكان، و گَڤَر.
مع شروق الشمس فوق القمم الشاهقة، تبدأ دورة حياة لا تهدأ. تتحول أيادي النساء إلى أدوات للكفاح، فيقمن بحلب الماعز الذي يشكل عصب اقتصادهم ومصدر قوتهم. أصوات ثغاء القطعان تمتزج بضحكات الأطفال وهم يلعبون بين الصخور، في مشهد يعكس بساطة الحياة وقسوتها في آن واحد.

الماء هنا ليس سلعة، بل هو شريان حياة يتدفق من ينابيع نقية، يروي عطش الإنسان والحيوان، ويحمل معه بركة الأرض.
لكن خلف هذا المشهد اليومي المفعم بالحياة، تختبئ ذكريات عميقة وأحزان دفينة. تختصر إحدى سيدات المخيم القصة بكلمات تملؤها الدموع حين سألناها عن شعورها بالعودة بعد غياب طويل: "لم أكن أرغب بالعودة... فكل شبر هنا يذكرني بعائلتي التي رحلت... لكن هذه أرضنا، لا نملك غيرها. عدنا بعد 20 عامًا من الغياب، وقلبي يحترق على ما مضى." إنها دموع تختزل تاريخًا من الفقدان والحنين إلى زمن كان فيه المخيم يضج بالأحبة.
على إحدى الصخور الكبيرة، نقشت رسالة بسيطة لكنها تحمل معنى كبيراً: "يا ليتنا نتركها نظيفة." إنها دعوة من هؤلاء الذين يعتبرون الطبيعة بيتهم، وصرخة للحفاظ على نقاء أرض الأجداد التي لم يبق لهم سواها.
بينما تستقر الخيام فوق قمم "وارێ مێرگێ"، وتستعيد الحياة إيقاعها البدائي، تتكشف فصول جديدة من حكاية الرعاة. هنا، حيث تعانق الشمس الصخور العارية، يصبح إبريق الشاي الأسود المتفحم فوق الجمر رمزًا للدفء والألفة، ونقطة تجمع تستعيد فيها العائلات أنفاسها بعد عناء يوم طويل من العمل.
تتحدث إحدى النساء الأكبر سنًا في المخيم، وبجانبها حفيدتها التي تمثل جيلًا جديدًا يولد في قلب هذه الطبيعة القاسية، عن التغييرات التي طرأت على حياتهم: "في الماضي، كنا نذهب إلى مراعٍ أخرى، لكننا لم نعد نستطيع الوصول إليها منذ 20 عامًا. الآن أتينا إلى هنا. نحن مجبرون، فالطرق سيئة والمسافات بعيدة، لكن هذه الأرض هي كل ما نملك."
تضيف أخرى بحكمة السنين: "نحن لا نطلب الكثير. سعادتنا في هذه الحياة البسيطة. نعم، هي صعبة، لكنها أرضنا ومياهنا وهوائنا. ماذا فعلنا في المدينة؟ لم نجد أنفسنا هناك. هذا المكان هو وطننا، حتى لو كان بعيدًا وعلى ارتفاع 4000 متر."
هذه الكلمات البسيطة تلخص فلسفة حياة كاملة. فالرعاة لا يرون في هذه الرحلة مجرد عمل موسمي، بل هي عودة إلى الذات، وتجديد للعهد مع الأرض التي شكلت هويتهم. ورغم أنهم لا يجدون "المتعة" بمفهومها الحضري، إلا أنهم يجدون الرضا في حريتهم واستقلالهم، وفي قدرتهم على تأمين قوت يومهم بعرق جبينهم.

مع كل خيط حليب يتدفق من ضرع الماعز إلى الدلاء المعدنية، تُنسج فصول جديدة من قصة "الكوچر" على مرتفعات "وارێ مێرگێ". هنا، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الطبيعة، تتحول أبسط المهام اليومية إلى طقوس مقدسة للبقاء. فالحليب الذي يُجمع بعناية ويُصفى بقطع قماش بسيطة ليس مجرد طعام، بل هو ثمرة كدهم اليومي وأساس اقتصادهم الذي يعتمد على ما تجود به هذه الأرض القاسية.
بين هذه الأيادي الخشنة التي تعمل بلا كلل، يبرز جيل جديد يحمل في عينيه أحلامًا مختلفة. آسيا، فتاة في ريعان شبابها، تقضي إجازتها الصيفية في مساعدة عائلتها بدلًا من الاستمتاع بوقتها. تقول بصوت هادئ يخفي طموحًا كبيرًا: "أنا في الصف الثاني الثانوي، وأحب الدراسة كثيرًا. لكنني لا أستطيع الذهاب إلى المدرسة من هنا، يجب أن أعمل." وعندما سُئلت عما إذا كانت ترغب في أن تصبح راعية مثل والدتها، كان جوابها قاطعًا وحاسمًا: "لا، لا أستطيع أن أعيش هذه الحياة." إنها أحلام مؤجلة، معلقة بين الرغبة في مستقبل مختلف وواجب البقاء بجانب الأهل.

هذا الصراع بين الأجيال تتفهمه الأمهات جيدًا. تقول إحداهن وهي تتأمل الجبال الشاسعة: "نحن هنا مجبرون. نعم، نحن سعداء لأن هذه أرضنا وهواءنا، لكننا مجبرون. الطرق سيئة والمسافات بعيدة والتعب لا ينتهي. في زمن آبائنا لم تكن هناك سيارات، كانوا يقطعون هذه المسافات سيرًا على الأقدام." وتضيف أخرى لتكشف عن جرح أعمق: "لقد أُغلقت قرانا من قبل الدولة، فاضطررنا للمجيء إلى هنا. لسنا نادمين، فهذه أرض أجدادنا، وهذا هو صبرنا وملاذنا."
في هذه الكلمات تكمن خلاصة الحكاية. إنها ليست مجرد قصة عن الرعي والترحال، بل هي ملحمة عن التمسك بالهوية والأرض في وجه كل التحديات. إنها قصة وطن يُحمل في القلوب، ويُروى حول مواقد النار مع أكواب الشاي الثقيل، وتتناقله الأجيال كأغنية خالدة ترددها أصداء الجبال. قصة "الكوچر" هي شهادة على أن الإنسان، حتى وإن أُجبر على ترك منزله، يظل قادرًا على بناء وطن جديد من الصبر والكرامة والحنين.
ومع غروب الشمس، بينما تتجمع العائلة حول النار لتناول وجبة بسيطة طُهيت على الحطب، وتتعالى أصوات الأغاني الحزينة التي تروي قصص الماضي، ندرك أن هذه الجبال ليست مجرد مكان للكسب، بل هي سجل حي لذاكرة شعب، وشهادة على أن الإنسان قادر على إيجاد الجمال والسعادة في أقسى الظروف، طالما ظل متجذرًا في أرضه.
وهكذا، تستمر الحياة في "وارێ مێرگێ"، بين صلابة العمل اليومي وحلاوة العودة إلى الجذور، قصة يكتبها الرُحّل كل عام بجهدهم ودموعهم وحبهم الأبدي لأرضهم.
قصة هؤلاء الرُحّل ليست مجرد رحلة، بل هي في الوقت نفسه رمز للصمود، والارتباط بالأرض والثقافة، والكفاح اللامتناهي من أجل البقاء في ظل أقسى الظروف الطبيعية.
تقرير : سنار صالح – كوردستان24 – هكاري

 
Fly Erbil Advertisment