مفكر عراقي: لا يمكن الحديث عن مستقبل الشرق الأوسط من دون الكورد.. والعراق بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد
أربيل (كوردستان 24)-أكد المفكر والأكاديمي العراقي البارز الدكتور عبد الحسين شعبان أن الكورد يشكلون ركيزة أساسية في المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط، إلى جانب العرب والفرس والترك، مشدداً على أنه "لا يمكن الحديث عن مستقبل المنطقة دون الاعتراف بحقوق الكورد ومكانتهم التاريخية والسياسية".
جاء ذلك في مقابلة أجراها معه مسؤول القسم العربي في كوردستان24، عبد الحميد زيباري، عقب محاضرته الأخيرة في أربيل بعنوان: "نصف قرن على اتفاقية الجزائر"، والتي تناول فيها آثار الاتفاقية على العلاقة بين العراق وإيران، وتداعياتها على القضية الكوردية، إلى جانب تقييمه للعلاقة بين بغداد وأربيل، وآفاق الدولة العراقية في ظل الأزمات المتكررة.
اتفاقية الجزائر: دروس في فن الحكم وفشل في التوازن
وقال شعبان إن اتفاقية الجزائر لا تُفهم فقط بوصفها وثيقة حدودية، بل هي محطة سياسية كبرى تكشف عن فلسفة إدارة الدولة وممارسة الدبلوماسية وتوظيف القوة الناعمة في رسم التفاهمات الدولية، مشيراً إلى أن الاتفاق سبقه تخطيط وتحقيق استمر لسنوات، ورافقته نقاشات بشأن مبادئ التفاوض واللجوء إلى أطراف ثالثة وهيئات دولية لفض النزاعات.
وأضاف أن الحرب التي أعقبت الاتفاقية، في إشارة إلى الحرب العراقية الإيرانية، امتدت لثماني سنوات (2096 يوماً من القتال)، وأثرت بشكل مباشر على حياة أكثر من مليون شخص، وأعاقت التنمية، وخلّفت مشكلات معقدة تتعلق بالأسرى والجرحى والمعاقين.
وفي السياق ذاته، أشار إلى أن إعادة دراسة الاتفاقية اليوم ضرورية لتقييم القضايا العالقة، مثل مسألة التنازلات الحدودية في نهاية الحرب، لا سيما ما يتعلق بالأراضي الكوردستانية، ومنها مناطق زيني قوش وشيف سعدو بمساحة 324 كلم²، والتي كان يُفترض أن تُستعاد، لكن إيران رفضت توقيع الاتفاق بصيغته المعدلة.
شط العرب والحدود النهرية.. خسائر مستقبلية للعراق؟
وحول الجانب النهري، أكد شعبان أن الاتفاقية تضمنت تنازلات عراقية في شط العرب، باعتماد خط التالوك (أعمق نقطة في مجرى النهر) لترسيم الحدود، ما تسبب لاحقاً بمشكلات فنية.
ولفت إلى أن دراسات جيولوجية تشير إلى احتمال أن يصبح شط العرب خلال مئة عام ضمن الأراضي الإيرانية بالكامل بسبب الترسبات الطبيعية، معتبراً ذلك "خسارة سياسية كبيرة للعراق".
السياسات المتولدة عن الاتفاقية وتداعياتها الداخلية
يرى الدكتور شعبان أن الاتفاقية، التي وصفها بـ "غير المتكافئة"، تركت آثاراً سياسية واقتصادية سلبية على العراق، وأسهمت في إطلاق سياسات التعريب التي انعكست على الداخل العراقي، خصوصاً في المناطق المتنازع عليها.
وأشار إلى أن من نتائج تلك المرحلة دخول إقليم كوردستان في الفضاء السياسي والاقتصادي الوطني، واستثماره لموقعه الجغرافي في بناء شراكات مع دول الجوار، مثل تركيا وإيران وسوريا.
التحولات الجيوسياسية ووحدة العراق المهددة
وحول مستقبل العراق في ظل التحولات الإقليمية، قال شعبان إن وحدة البلاد ما تزال قائمة بفضل تفاهمات بين القوى السياسية، لكنها معرضة للاختلال في حال حدوث تغييرات جيوسياسية في المحيط الإقليمي، داعياً إلى قراءة التحولات الجارية بعين استراتيجية.
ورحب بقرار حزب العمال الكوردستاني (PKK) إعلان السلام، واصفاً إياه بـ"التاريخي"، معرباً عن أمله في أن يتحول الحزب إلى كيان سياسي مدني يطالب بالحقوق القومية، مما يعزز فرص الحل السلمي في تركيا وربما إيران وسوريا أيضاً.
وفي الملف السوري، أشار إلى صعود واضح للحركة الكوردية، مرجحاً أن تُضمّن مطالبها في التعديلات الدستورية الجارية.
كوردستان.. نموذج متقدم بشروط
وصف شعبان تجربة إقليم كوردستان بأنها نموذج سياسي واقتصادي متقدم نسبياً، رغم الحاجة إلى تنمية أوسع وبنى تحتية أقوى.
وأكد أن هذا النموذج سيكتمل إذا جرى التوصل إلى تفاهمات دستورية وقانونية جديدة مع بغداد، تكفل شراكة حقيقية واستقراراً طويل الأمد.
وأكد أن الكورد، بوصفهم أحد أعمدة المنطقة الأربع (إلى جانب العرب، الفرس، والترك)، يمثلون عنصراً أساسياً في معادلات الاستقرار والتغيير، مضيفاً: "لا يمكن الحديث عن مستقبل الشرق الأوسط من دون الحديث عن الكورد، الذين يتجاوز عددهم 40 مليون نسمة".
تحولات إقليمية عميقة ومشاريع متصارعة
وحول المشهد الإقليمي، أشار شعبان إلى أن المنطقة تشهد صراع أربعة مشاريع كبرى: المشروع الإسرائيلي التوسعي، المشروع الإيراني المتنامي بعد حرب غزة، والمشاريع الإقليمية التي تتشكل حول هذين المحورين.
وأكد أهمية أن يلعب إقليم كوردستان دوراً استراتيجياً كمركز انفتاح إقليمي وحوار بين القوميات الرئيسية، مستذكراً دعوته السابقة لحوار بين "أعمدة الأمة" العرب، الكورد، الفرس، والترك، مشيراً إلى مشاركة فاعلة في مؤتمر عقده الأمير الحسن في هذا السياق.
الانتخابات المقبلة.. مشهد جديد يلوح في الأفق
توقع الدكتور شعبان أن تشهد الانتخابات العراقية المقبلة مشهداً سياسياً مغايراً، نتيجة عمليات فرز داخل القوى الشيعية والسنية، مع احتمال تقارب كوردي - كوردي في حال تشكيل حكومة موحدة في الإقليم، مما يمنح الكورد تأثيراً أكبر في مجريات السياسة العراقية "بطريقة ناعمة وواقعية".
بناء الدولة والمواطنة.. التحدي الأكبر
وفي تقييمه لمشروع بناء الدولة، قال شعبان: "ما زلنا حتى اليوم على عتبة الدولة، لأن سيادة القانون غائبة أو ضعيفة، وتتعدد المرجعيات بين قانون الدولة والقانون العشائري والديني."
وشدد على ضرورة وجود سلطة واحدة وقانون واحد وقضاء مستقل عادل.
وأكد أن المواطنة لا تتحقق إلا بأربعة ركائز:
الحرية؛
العدالة الاجتماعية؛
المساواة أمام القانون؛
الشراكة والمشاركة في إدارة الدولة والمجتمع.
القلق والتفاؤل.. بين الطائفية والسلاح وإرادة الشباب
أبدى الدكتور عبد الحسين شعبان قلقه من استمرار النزعات الطائفية والإثنية، وانتشار السلاح خارج سيطرة الدولة، وهيمنة مرجعيات فوق الدولة، مؤكداً أن هذه العوامل تقوّض مشروع الدولة المدنية.
ومع ذلك، شدد على تمسكه بالأمل، قائلاً: "ربما أكون متشائماً منذ عقود، لكنني لم أفقد الأمل، لأنني أؤمن بوجود إرادة حقيقية لدى المجتمع العراقي، وخاصة لدى الشباب".
ولم ينس التأكيد على أهمية حقوق المرأة، قائلاً: "لا يمكن لمجتمع أن يتطور ويبني دولة عصرية ما دامت المرأة تُنتقص حقوقها تحت ذرائع دينية أو عشائرية".
الوطن فضاء شراكة لا ساحة صراع
في ختام اللقاء، جدد الدكتور عبد الحسين شعبان دعوته إلى إعادة بناء الثقة بين مكونات العراق، والاحتكام إلى الدستور، واحترام التعددية، قائلاً: "الوطن ليس ساحة لتصفية الحسابات، بل فضاء للشراكة الحقيقية التي تعترف بالجميع. وبينما تتغير خرائط السياسة، يظل الأمل معقوداً على صوت العقل، وعلى جيلٍ يرفض تكرار أخطاء الماضي".
