بعد عقد من الصمت والغربة.. فنان كوردي يجدد آماله بوصوله إقليم كوردستان

أربيل (كوردستان 24)-  من كل زاوية في جبال كوردستان، يرتفع صوت ينسج حكاية. صوت ينبعث من أعماق القرى، ومن الحجارة التي تحتفظ بأصداء الأجداد الذين تغنوا للحب، والحرب، والمنفى.

إن الفن الكوردي ليس مجرد ترف، بل هو ذاكرة حية لشعب يأبى أن يمحو الزمن ملامحه. هو تاريخ يروى غناءً، وهويةٌ تُعزف على أوتار تتأرجح بين الألم والجمال. ورغم تداخل الألحان في العالم، يظل الفن الكوردي محتفظا بفرادة تميزه عن فنون الأمم الأخرى؛ فقد ولد من رحم المعاناة، فشكل الشوق منه مدرسة فنية متفردة.

يصف الفنان الكوردي عبد الرحمن أحمد، في مقابلة حصرية مع "كوردستان24"، الفن الكوردي بأنه "ذاكرة كوردستان وصوتها"، مؤكدًا أن الأغنية الكوردية تجسد "روحا مختلفة" في المشهد الموسيقي، لأنها "انبثقت من الألم" وتحمل في طيات ألحانها "تاريخا مديدا من الصبر والصمود".

عبد الرحمن أحمد، المنحدر من مدينة عفرين, قرية كوران، في شمال غرب سوريا (غرب كوردستان) والمقيم حاليا في سويسرا، استهل مسيرته الفنية في حقبة السبعينيات. يتميز فنه بالطابع الكلاسيكي، حيث يبرع في رواية وغناء القصص والملاحم والأساطير الكوردية بأسلوبه الخاص والفريد وهو أيضا كاتب فقد طبع عدد من الكتب منها "الصدفة والقدر"، "سيرة حياة عبد الرحمن أحمد، و كتابا أيضا عن "علي تجو ولكن بقي مسودة.

عندما وطئت قدماه أرض إقليم كوردستان للمرة الأولى، شعر عبد الرحمن بإحساس جارف بالانتماء. يقول في حديثه لـ "كوردستان 24": "هذه هي زيارتي الأولى لإقليم كوردستان، وكان شعوري عند وصولي إلى أربيل غامرا وقويا للغاية". ويضيف: "أحسست بأنني بين أهلي، وبأنني قادر على التحدث بلغتي الكوردية في كل مكان، وأسمعها تتردد في الردود علي".

لقد تأثر بعمق بالترحاب الحار الذي استقبل به في جميع أنحاء الإقليم، واصفا هذه التجربة بأنها عودة إلى الوطن وليست مجرد زيارة عابرة. "شعرت بارتباط عميق وسعادة حقيقية، كما لو كنت أعود إلى وطني بعد غياب طويل".

بعد سنوات من الكبت الفني في سوريا، حيث منع من الغناء والتلحين لعقد كامل، وجد عبد الرحمن أخيرا في كوردستان فضاء للحرية الإبداعية التي طالما حلم بها. "إن الإحساس بوجودي في وطني وقدرتي على الغناء بحرية هو أحد أقوى الانطباعات التي سأحملها معي دائما".

كما أبدى عبد الرحمن إعجابه البالغ بالتطور الحضري والثقافي الذي تشهده أربيل، قائلا: "القصور الشاهقة، والمباني التي ترتفع إلى 10 و15 و20 طابقا، والطرق الحديثة—ما شاهدته هنا فاق توقعاتي، بل وتجاوز ما رأيته في أجزاء من أوروبا". وأضاف بنبرة متفائلة: "إذا استمرت أربيل في التطور على هذا النحو لعشر سنوات أخرى، فسوف تتفوق على دبي".

هذا التقدم، على حد تعبيره، يملؤه بالفخر والأمل ويشكل مصدر إلهام قوي له. "إن نمو كوردستان ليس ماديا فحسب، بل هو نمو روحي أيضا. إنه يمنح فنانين مثلي الدافع للإبداع والتعبير عن أنفسهم دون قيود".

وفي معرض حديثه عن الرابط الوجداني بين عفرين وكوردستان، أكد عبد الرحمن: "هناك تشابه كبير بين الروح الكوردية في إقليم كوردستان وعفرين". واستطرد قائلًا: "إن أهل كوردستان مثلنا يملكون روحا متقدمة ومتعاطفة. لقد لمست وحدة عاطفية وثقافية عميقة—روح واحدة مشتركة تمتد عبر جميع الأراضي الكوردية".

وهو يعتقد أن فن عفرين الأصيل، الذي نبع من صميم الحكايات والمشاعر، سيجد صدى قويا لدى الجمهور في كوردستان. "إن الصلة بين كورد إقليم كوردستان وكورد عفرين متجذرة؛ فالروح واحدة".

بالنسبة لعبد الرحمن، لا يمثل إقليم كوردستان وطنا فحسب، بل يمثل ولادة روحية جديدة. فبعد عشر سنوات من الصمت القسري في سوريا، و سنوات الغربة في سويسرا, وجد في الإقليم ما يتوق إليه كل فنان: الحق في الإبداع، والغناء، وأن يُسمع صوته.

"في كوردستان، رأيت الفنانين أحرارا يغنون كيفما يشاؤون، ويروون قصصهم، ويحتفون بهويتهم من خلال موسيقاهم". وأضاف: "هذا الشعور—بأن تكون في وطنك، حرا، ومحترما—يفوق كل وصف".

ودعا الفنان إلى ضرورة الحفاظ على التراث الفني الكوردي، وبشكل خاص الهوية الموسيقية لعفرين التي عانت من ويلات النزوح والتجزئة. وحث قائلا: "آمل أن تسهم المؤسسات في كوردستان في توثيق وحماية تراث عفرين". وأضاف: "يجب أن يكون الفن هو الجسر الذي يربط جميع الفنانين الكورد—من عفرين والقامشلي إلى السليمانية ومهاباد وديار بكر".

كما شدد على أهمية تطور الفن دون أن يفقد ارتباطه بجذوره. "أنا لا أؤمن باستنساخ القديم كما هو. يجب علينا صقله وتجديده، وبث روح جديدة في الموروث الذي وصل إلينا من أجدادنا".

وأوضح عبد الرحمن أن ما يميز موسيقى عفرين هو صدقها العاطفي وارتباطها الوثيق بالأرض. "أغاني القامشلي وكوباني تتسم بالإيقاع السريع والبهجة، بينما أغاني عفرين يغلب عليها طابع الحزن، لأنها ولدت من أرض محاطة بالصراع". ويرى أن فنان عفرين الحقيقي "يجب أن يغني من الجذور—يجب أن تتكشف أغنيته كسلسلة قصصية تروي تاريخ الناس والمكان".

وأشار إلى أن موسيقى عفرين في بداياتها كانت تعتمد حصريا على جمال الصوت، بعيدا عن المقامات الفنية المنظمة. "لم تدخل المقامات إلى فن عفرين إلا قبل حوالي عشرين عاما، لكن الأغاني الأصيلة لا تزال تعتمد على البنية النغمية الصحيحة، مثل أغنية 'عائشة' التي تغنى في كل حفل زفاف لجمالها وصدق لحنها".

وأكد أن الطبيعة شكلت فن عفرين بعمق. "عفرين كـ'بستان الورود'—حديقة غنّاء، لكن ورودها هي أشجار الزيتون التي تمتد إلى ما لا نهاية، وهذا ما يمنح فننا روحه الخاصة".

وتتبع عبد الرحمن جذور الفن الكوردي وصولًا إلى التقاليد الصوفية المبكرة، قائلًا: "لقد رأى الصوفيون في الفن وسيلة لتوحيد الناس، لكنهم استخدموه بشكل أساسي للمدائح والعبادة". وأضاف: "ثم جاء زرياب وابراهيم الموصلي، اللذان أرادا أن يكون الفن متاحا للجميع—ومن هنا ولد التنوع".

يعتبر عبد الرحمن نفسه حارسا لهذا التراث ومجددا له في آن واحد. فمن بين عشرين فيديو كليب موسيقي في رصيده، ستة منها أعمال تراثية، بينما البقية من ألحانه وكلماته. "بالنسبة لي، يجب أن تحمل كل أغنية قصة—مثل مسلسل له بداية ونهاية، شيء يمكن للناس أن يشعروا به ويتفاعلوا معه".

وعن جمهوره، يقول عبد الرحمن: "لدى الناس في عفرين أذن حساسة تميز العاطفة. إنهم يفهمون الألم في الأغنية. أما جمهور الشتات، فهو أبعد قليلا عن التقاليد، والجيل الشاب في أوروبا غالبا ما يشعر بالانفصال عن جذوره الكوردية. لكن في كوردستان، أشعر بأنني حقا بين أهلي—جمهور مليء بالرحمة".

وهو يؤمن بأنه على الرغم من النزوح والتغيير الديموغرافي، فإن صوت عفرين أصبح أقوى من أي وقت مضى. "الألم الذي مررنا به جعل صوتنا أعلى، حتى لو كنا مشتتين في كل بقاع الأرض".

في ختام حديثه، أعرب عبد الرحمن عن امتنانه العميق لشعب وقيادة إقليم كوردستان. "أتوجه بالشكر للرئيس مسعود بارزاني ورئيس الوزراء مسرور بارزاني على جهودهما للنهوض بالإقليم". وأضاف بفخر: "ما رأيته هنا يمنحني الأمل والفخر- أنا أرى كوردستان كالمنطقة رقم واحد في العالم".

وترك رسالة مؤثرة للفنانين الكورد الشباب:
"الفن الحقيقي هو جسر الذاكرة. حافظوا على لغتكم، وعلى تراث أمهاتكم، وعلى وحدتكم. ما نغنيه اليوم سيحمي هوية كوردستان في الغد".

واختتم حديثه بكلمات مشحونة بالعاطفة:
"عفرين، بالنسبة لي، هي الجذور والألم والجمال. وإقليم كوردستان هو الوطن والأمل. عندما أغني لعفرين، أشعر بأنني أغني للتاريخ ذاته—للكرامة، ولأمل لا يموت أبدا".

 

آهورا قاضي - كوردستان24

 

 
 
 
Fly Erbil Advertisment