برنارد هنري ليفي يفتح ملفات الشرق الأوسط: الدولة الكوردية شرطُ الاستقرار.. والكرةُ الآن في ملعب بغداد

طاب وقتكم سيداتي وسادتي. الشرق الأوسط، هذه الرقعة الجغرافية التي لا تكاد تهدأ عواصفها حتى تعود لتهب من جديد. ورغم الهدوء النسبي الذي نشهده حالياً على جبهات القتال، إلا أن الجمر لا يزال يتقد تحت الرماد. تحذيراتٌ مستمرة، ومخاطرُ لم تتبدد، بدءاً من الخلايا النائمة للتنظيمات المتطرفة، مروراً بالانسداد السياسي في بغداد وأربيل، وصولاً إلى الضبابية التي تلف المشهد السوري ومستقبل ما بعد الأسد.

لمناقشة هذه الملفات الشائكة، وقراءة مستقبل المنطقة بعين فيلسوف ومراقب سياسي مخضرم، يسعدنا أن نستضيف معنا مباشرة من العاصمة الفرنسية باريس، المفكر والفيلسوف الفرنسي، السيد برنارد هنري ليفي. أهلاً بك معنا".

كوردستان 24: سيد ليفي، شكراً لانضمامك إلينا. دعنا ندخل في صلب الموضوع مباشرة؛ في ظل الهدوء النسبي الحالي، ما هي أبرز التحذيرات والمخاطر التي تراها تتربص بالشرق الأوسط اليوم؟

برنارد هنري ليفي: في الواقع، التهديدات لم تتغير، فهي لا تزال قائمة بنفس الحدة. نحن نتحدث عن التعصب، الإسلام الراديكالي، وبالتأكيد تنظيم داعش. أنتم ككورد دفعتم ضريبة باهظة وكنتم ضحية لهذا التنظيم، ورغم هزيمته عسكرياً، إلا أن الخطر الأيديولوجي والوجودي لا يزال مستمراً. لا تزال هناك خلايا نائمة ومجموعات تحاول إعادة تنظيم صفوفها. قبل عشر سنوات، عندما كنت على الجبهات وشاهدت بطولات البيشمركة بأم عيني، أدركت حجم هذا الخطر. لذا، يجب ألا نغفل عن هذه التهديدات أبداً.

كوردستان 24: إذن، نفهم من كلامك أن على الكورد، وتحديداً قوات البيشمركة، البقاء في حالة تأهب قصوى لأن "داعش" لم ينتهِ تماماً؟

برنارد هنري ليفي: بكل تأكيد. سواء كان التهديد باسم "داعش" أو تحت أي مسمى لتحالف إرهابي جديد، اليقظة ضرورية. ويجب أن يكون الغرب شريكاً يقظاً إلى جانب الكورد. للتاريخ، لم أرَ قوة قاتلت داعش بشراسة وبسالة مثل الكورد، سواء البيشمركة في إقليم كوردستان أو المقاتلون في روجآفا (غرب كوردستان - شمال شرق سوريا). هاتان القوتان تملكان تنظيماً وخبرة لا يستهان بها، وهما خط الدفاع الأول ضد عودة هذا الظلام.

كوردستان 24: بالانتقال إلى بُعد آخر للصراع، برأيك أيهما يشكل الخطر الأكبر حالياً على استقرار المنطقة ومستقبل الكورد: تنظيم داعش، أم عودة العقلية "المركزية" في إدارة الحكم في دول المنطقة؟

برنارد هنري ليفي: سأكون واضحاً جداً، وموقفي هذا لم يتغير منذ ثلاثين عاماً: الشرط الأساسي والجوهري للاستقرار والسلام والرفاهية في الشرق الأوسط هو "قيام دولة كوردية".
نعم، داعش تهديد، ولكن "المركزية" تهديد وجودي آخر. الدولتان العراقية والسورية أثبتتا فشلهما كدول مركزية؛ فقد عجزتا عن الحكم الرشيد وعن منح الكورد حقوقهم المشروعة. الشعب الكوردي أمة عظيمة تملك الأرض واللغة والتاريخ، وتوزعها بين إيران وتركيا والعراق وسوريا مع حرمانها من دولتها هو خلل تاريخي يجب تصحيحه.

كوردستان 24: هل نفهم من ذلك دعوة للكورد بعدم المساومة على "الفيدرالية" أو اللامركزية في مواجهة محاولات تركيز السلطة؟

برنارد هنري ليفي: بالتأكيد، اللامركزية هي الحد الأدنى الذي لا يمكن التنازل عنه. لكنني أعتقد أن الكورد يستحقون أكثر. إنه لمن الظلم أن تبقى هذه الأمة بلا دولة. الكرد تعرضوا للإبادة، للأنفال، وقاتلوا الإرهاب نيابة عن العالم، ومع ذلك خذلهم المجتمع الدولي. لا أزال أتذكر بمرارة يوم الاستفتاء الذي دعا إليه الرئيس بارزاني؛ كان يوماً أسوداً بالنسبة لي لأن العالم لم يدعم هذا الحق الديمقراطي رغم تصويت أكثر من 90% من الشعب بـ "نعم". لقد حوصرتم وعوقبتم، والغرب وقف متفرجاً. هذا يجب ألا يتكرر.

كوردستان 24: سيد ليفي، بالحديث عن السياسة الداخلية، شهدنا انتخابات في كل من العراق وإقليم كوردستان، لكن مخاض تشكيل الحكومات لا يزال متعسراً. هل ترى في هذا التأخير خطراً كامناً؟

برنارد هنري ليفي: في الديمقراطيات العريقة، كما في فرنسا، المصلحة العامة يجب أن تعلو فوق المصالح الحزبية. الوضع في العراق وكوردستان يتطلب تحلياً بروح المسؤولية ورباطة الجأش، وتقديم التنازلات المتبادلة من أجل تشكيل حكومة تخدم الناس. التأخير ليس في مصلحة أحد في ظل هذه الظروف الإقليمية المعقدة.

كوردستان 24: فيما يخص تشكيل الحكومة الاتحادية في بغداد، برأيك، ما هي الأوراق التي يملكها الكورد، وكيف يجب أن تكون مطالبهم؟

برنارد هنري ليفي: لن أدخل في التفاصيل الدقيقة للسياسة الداخلية، لكنني أستطيع القول بوضوح: "الكرة الآن في ملعب بغداد". أربيل دفعت ما يكفي من الضرائب؛ قُطعت ميزانيتها، وحُرمت من مستحقاتها المالية لسنوات. لقد أظهر الكورد صبراً طويلاً، والآن يجب على بغداد أن تدرك ضرورات الشراكة الحقيقية وأن توفي بالتزاماتها تجاه الإقليم.

كوردستان 24: بناءً على وصفك لتعامل بغداد، كيف تقرأ "سيادة" الدولة العراقية اليوم؟ هل يحكمها الدستور والقانون، أم أن هناك "دولة عميقة" وقوى خارجية تدير المشهد؟

برنارد هنري ليفي: لنكن صريحين، العراق كدولة يقع تحت تأثير هيمنة خارجية واضحة. هذا التحالف غير المتكافئ جعل بغداد في كثير من الأحيان خاضعة للإرادة الاقليمية، وهذا وضع مؤسف ومخزٍ لسيادة دولة عريقة مثل العراق. في ظل هذه الهيمنة، يبدو طموح الكورد نحو الاستقلال أو بناء كيانهم الخاص حقاً مشروعاً ومفهوماً أكثر من أي وقت مضى.

كوردستان 24: لننتقل إلى الملف السوري، الذي تعرفه جيداً. بعد سنوات من تراجع سيطرة نظام الأسد عن مناطق واسعة، كيف تقرأ المشهد الحالي في سوريا وتحديداً "روجآفا"؟

برنارد هنري ليفي: المشهد معقد. صحيح أن نظام الأسد الوحشي فقد السيطرة على أجزاء واسعة، وهذا تغيير كبير. لكن السؤال المقلق هو: من البديل في تلك المناطق (غير الكوردية)؟ هل تغيرت أيديولوجية الجماعات المسلحة هناك؟ البعض يروج لأن شخصيات مثل " احمد الشرع" قد تغيرت واعتدلت. أنا شخصياً لدي شكوك عميقة جداً. الأيديولوجيا الجهادية ليست ثوباً تخلعه وترتديه متى شئت؛ إنها جذور عميقة، ولست مقتنعاً بأن هؤلاء تحولوا إلى ديمقراطيين بين ليلة وضحاها.

كوردستان 24: هذه الشكوك يشاركك فيها كورد سوريا (روجآفا)، خاصة مع استمرار الهجمات. هم يطالبون بدمشق بالفيدرالية والاعتراف بإدارتهم الذاتية، لكن النظام يرفض. ما نصيحتك لهم؟

برنارد هنري ليفي: يجب أن يستمروا في الضغط والإصرار على مطالبهم. لا يمكن العودة إلى الوراء. يجب على الغرب، باريس وواشنطن، أثناء حوارهم مع أي طرف في سوريا، ألا ينسوا حلفاءهم الكورد. يجب فرض معادلة تضمن "حكماً ذاتياً" أو فيدرالية للكورد في سوريا. أي حل سياسي يتجاهل حقوق الكورد في روجآفا سيكون حلاً ناقصاً وغير عادل.

كوردستان 24: سيد ليفي، في ختام هذا الحوار، لا بد من التطرق للصراع الإقليمي الأوسع. شهدنا توتراً ومواجهات بين إسرائيل وإيران ووكلائها. هل تعتقد أننا أمام جولة حرب جديدة؟

برنارد هنري ليفي: المفتاح في طهران. هل استوعبت ايران الدرس وأدرك أن التصعيد العسكري المباشر (كما حدث في الهجمات الصاروخية) يضرهم أكثر مما ينفعهم؟ أم أنهم سيكررون بدافع الغضب؟ أتمنى ألا تنجر المنطقة لحرب شاملة. وأملي الحقيقي والوحيد لإيران ليس في حروبها الخارجية، بل في نضال نسائها وشعبها من أجل الحرية.

كوردستان 24: المفكر والفيلسوف الفرنسي، السيد برنارد هنري ليفي، شكراً جزيلاً لك على هذه القراءة المعمقة، كنت معنا مباشرة من باريس.